التاريخ الإنساني سلسلة متتابعة من الظواهر، لا يحكم تتابعها قانون واحد، لكن ذلك لا يمنع من قراءتها وتحليلها، وفقاً لسياقات نشوئها وتطورها، وهي في النهاية استجابة لظروف وأسباب يمليها الواقع التاريخي.
فعلى سبيل المثال، هناك علاقة جدلية بين الاستعمار والاكتشافات الجغرافية، والسعي لاكتساب الثروة. فاكتشاف طريق الرجاء الصالح، لم يكن اكتشافاً في الجغرافيا فقط، ولكنه كان وسيلة لاقتحام أسواق عالمية جديدة، وهيمنة على مضائق جديدة، وأيضاً تسهيلاً لنهب ثروات طبيعية من بلدان العالم الثالث، والهيمنة عليها. والحال هذا لا يختلف كثيراً، حين يتعلق الأمر بالدوافع التي أدت إلى اكتشاف القارتين الأميركيتين.
النزوع القومي الأوروبي، كان نتاج نشوء البرجوازية الصناعية التي وجدت في تقوقعها داخل حدودها معوقاً لنموها، ولتراكم رأس المال. فكانت الدولة القومية، هي توسع في دائرة السوق، وكسر للحواجز الجمركية المعيقة لتراكم الثروة للطبقة الصاعدة الجديدة.
وفي هذا السياق، يمكن فهم العولمة، باعتبارها توسع الدولة القومية، من طابعها القومي، إلى مناطق خارج دائرة حدودها، مغلفة نزعات التوسع، بمبادئ وأطر إنسانية. ويمكن القول إن العولمة المعاصرة، هي استمرار لنسختها الأصلية، التي هي صنو للاستعمار التقليدي الذي انطلق من القارة الأوروبية إلى القارات القديمة.
تطور مفهوم العولمة لاحقاً، وارتبطت به لتلحق به الشركات المتعددة الجنسية، التي يطلق عليها مجازاً في دول العالم الثالث الشركات المتعدية الجنسية، في إشارة جلية لطبيعتها التي تفتقر إلى المساواة، والهادفة لاحتكار الأسواق العالمية. وقد حققت هذه الظاهرة اندماج أسواق جميع بلدان العالم، في اقتصادات السوق الرأسمالية.
وحتى ما عرف فيه حينه بالكتلة الاشتراكية، في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي، وجدت أنفسها، منذ ارتفاع الجدار الحديد، الذي ارتبط بالمرحلة الستالينية، مرتبطة على رغم شعاراتها العقائدية الصاخبة بالأسواق العالمية الكبرى، ومتأثرة بها. وقد جاء الإعلان عن تأسيس منظمة التجارة العالمية العام 1995، ليشكل انتقالاً رئيسياً في مفهوم العولمة، نقله من طابعه الاستعماري القسري، إلى الشكل المؤسساتي، الذي تستند عملياته إلى أسس ناظمة، مقرة ومعترف بها من جميع الأعضاء المنخرطين في هذه المنظمة التي تضطلع بوضع الأسس والقوانين الناظمة للعلاقات التجارية بين الأمم، والمستندة في جوهرها إلى حرية السوق، وفتح أبواب التنافس الحر، بين عالم صناعي متقدم، وعالم متخلف، لايزال يبحث عن مواضع أقدامه. والهدف المعلن هو تحرير الاقتصاد، وفتح الأسواق، والسماح بتدفق رؤوس الأموال، بين الدول من غير قيود، وإلغاء الحواجز الجمركية. وتتضمن أنشطتها خدمات الاتصالات السلكية اللاسلكية، وتكنولوجيا المعلومات، والخدمات المالية، من تجارة بنكية وتأمين، وأوراق ومعلومات مالية، وخدمات إلكترونيه.
وأخطر ما في هذا المشروع، فرضه نمطاً اقتصادياً واحداً على العالم بأسره. مع تبعات سياسية واجتماعية، لا يمكن الفكاك منها، طالما قبل المنخرطون في المنظمة بقوانين اللعب فيها.
ولم يكن بد للدول الباحثة عن الأمن والاستقرار، وعن فرص اقتصادية بين الكبار من الالتحاق بمنظمة التجارة العالمية، وقبول شروط الانخراط فيها، على رغم تبعات ذلك الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في داخل هذه البلدان، وفي مقدمة تلك النتائج، الحيلولة دون نمو حقيقي للصناعات الوطنية، في البلدان النامية، التي لم يكن في وسعها التنافس مع الكارتلات الدولية الكبرى، الذي دخلت في مرحلة التصنيع بالأبعاد الكبيرة.
وانقلب على الساحر. فأميركا التي أرادت من تأسيس هذه المنظمة احتكار السوق، وتكريس إبقاء بلدان العالم النامي، سوقاً استهلاكية لمنتجاتها، اصطدمت بواقع مرير، لم يكن في الحسبان.
كانت الخشية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، من نهوض هندي اقتصادي، توفر له القوة البشرية، والقدرات العلمية، وإنتاج بضائع رخيصة، من ضمنها سيارات النقل والركاب، بأسعار زهيدة، تجعل الهند قادرة على اكتساح السوق العالمية. وقد شملت الاجتماعات الأولى لمنظمة التجارة العالمية، محاولات من أميركا ودول أوروبا الغربية واليابان، لإعاقة عمليات التصنيع وحرية الحركة للهند. وتم فرض شروط مجحفة، متناقضة مع مبادئ منظمة التجارة العالمية، بذريعة اختلاف بيئة الهند، بالمقارنة مع الدول الصناعية المتقدمة.
لكن التهديد الحقيقي، جاء من التنين الصيني، الذي حققت تجارته اختراقات واسعة في جميع القارات، مستفيداً من المكتسبات التي أتاحها له انضمامه إلى منظمة التجارة، وأيضاً قوته البشرية الهائلة، وانخفاض قيمة عملته.
وفي العقدين الأخيرين، حقق الاقتصاد الصيني، طفرات عالية، تمكن فيها من فرض سطوته. وقد أسهم إلى حد كبير في خروج أميركا من أزمتها الاقتصادية، من خلال شراء مكثف لسندات الخزينة الأميركية، وتقديمه قروضاً كبيرة، للحكومة الفيدرالية، وإعادة الحياة للكثير من المصانع التي أعلنت إفلاسها، أو كانت على وشك الإفلاس. باتت الصين تتحدى أقوى اقتصاد في العالم، حيث يتوقع أن يكون ثقل اقتصادها معادلاً لقوة أميركا الاقتصادية في وقت قريب.
وفي ظل ظروف كهذه، عادت ثقافة الانكفاء والعزلة تطل من جديد، والعودة إلى القوانين القديمة للسوق. وهي سياسة تعيد إلى الحماية الوطنية وفرض الحواجز الجمركية الاعتبار مجدداً. وتتخلى بوضوح عن المبادئ والأهداف الاقتصادية التي بشرت بها الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
هل هذه المتغيرات ثقافة انكفاء أم عودة جديدة وقوية للنزعات القومية؟
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 5291 - الخميس 02 مارس 2017م الموافق 03 جمادى الآخرة 1438هـ