عند باب الفندق الكبير في شارع الحسن الثّاني بحيّ مارينا الجديد، ألتقي برفاق المخيّم، بحسب البرنامج المسطر، وأختبئ وراء قبّعة عصرية أستظلّ بها من شمسٍ بكرٍ تلمع زاهيةً وسط السّماء. أحسّني فرحاً، أتفهم حماسي، وأتقدم بسرعة نحو البحر الذي يتناهى إلى مسمعي هديره المعزوف بإتقان كأن طلّته المبهّجة سحر بصريّ وموسيقي لا يقاوم. السَّاعَة تشير إلى العاشرة صباحاً، وعلى الشاطئ نفر من الأجانب مندهش تماماً من جو السعيدية، ومدينتها السياحيّة التي تلتهم الزوار، وتتصنّع انبهارهم التّامّ، فتبلوره بحسب الحاجة إلى بهاء مدينة أكاد أجزم أن أعطاب النّفس تُبتَلع بين فكّيها، وتغيب بين أحضانها الدفيئة في الشّوارع الخلفيّة لكورنيشها المزيّن على أطرافه بمحلّاتٍ فاخرة تعرض ماركاتٍ عالميةٍ من الملابس والأحذية ولوازم رياضة ركب الأمواج.
وتملّكني إلى أبعد الحدود سحر هذا البحر اليقظ، وزرقته، ودفئه، وحجمه الذي يتغنّى بجغرافيا فريدة من نوعها، فنطّ من استلقائي على الشاطئ لأتطلّع غرباً باتجاه المنطقة الحدوديّة الّتي تُبعِد بحرنا عن بحرهم، ويابستنا عن يابستهم، ولم تكن تقبل الاقتراب منها، ولا من الجنود المصطفّون على أطرافها، ووراء سياجها الحديدي الموشّح بأعلام بلدين شقيقين هما المغرب والجزائر.
ولم أدر لماذا تقودني الفرص نحو المكان وتعمّق مقصدي إلى حكاياته القديمة المؤرخّة لفصول الوئام بين الشّعبين؟ كلّما قررت التخييم في فاسحة ما، تتقاطع طرقي في أغلب الأوقات بفضاءات السعيدية التي لا تفتأ تحول استجمامي السّنويّ إلى سلسلة من الأسئلة الذاّبحة حول صلة أرحام قُطعت وقصص حب أُجهِضت غايتها بسبب لعنة الحدود.
وكنت دائماً، كما الآن، أتابع الوجوه الأليفة، الملوّنة، المتراشقة ذات اليمين وذات الشّمال، وأحظى ببعضها قربي، ثمّ ألعب بالرّمل، وأغمس جسدي داخله في سعيّي نحو تبديد الوقت، عَلِّي أظلّ في مضمار الحماس واللهو، حتى يلتحق بي شباب المخيّم، فنلهو قليلا، ونعرك أجسادنا في الأرض عقب مباراة لكرة الطائرة، محاولين كسب سمرة خفيفة.
وفي المساء، قبيل غروب الشمس بقليلٍ، سقتني بعيداً عن حشد الشباب، واعتذرتُ لهم عن الذهاب إلى المرقص، عادتنا اللّيليّة منذ بداية الصيف. ولذّ لي الصّعود إلى سطح الفندق الشّاهق، واستغراق التفكير الشائك في زينة الشّوارع المخضرمة، وجوق الموسيقى الشّعبية، وإنارة المجمّع الحدوديّ الخافتة، واستنفاراته، ودورياته الحريصة.
وعندما أستعرض علاقة الحدود بحياتي ضمن مداهمات الذاكرة، أجد ظلاله قد امتدّت إلى طفولتي، وخالطت عزمي في فهم ما يحدث أمامي من تفاصيل وقعت عليّ كالصخرة حين أدركت في صغري أن ثنايا التاريخ ومجرى الأحداث تواقحت مع مصير جدّي، وأخذته بعيداً عن زوجته الجزائرية، وابنه الطفل الذي كبر واشتدّ عوده وراء حدود أغلقت أبواب الوصال عن آخرها، فلم تسمح للأحبة بالعبور منها.
أحسّست بغصةٍ في حلقي، وبانكسارٍ يخترق جسدي الذي يتقمّص الحياة رغماً عنه. حاولت أن أخفي اشتياق خلايا ذهني إلى عالم أشقاءنا البعيدين، وأنسى الأمر داخل صخب أقلّبه سكوناً مطبقاً حين تشتدّ مواجعي في لّحظة أتذكر أنّ الجمال المغاربي مقسوم على ضفتين بسبب السياسة، وأنّ قلب جدّي قد أطبق عليه عشق مهيب لما رواء الحدود.