العدد 5285 - الجمعة 24 فبراير 2017م الموافق 27 جمادى الأولى 1438هـ

قصة قصيرة... سيدتي

شيماء بنتهاين - قاصة مغربية 

تحديث: 12 مايو 2017

كان الجو بارداً جداً، ورائحة المطر كالعشق تجوب أروقة المبنى بحرية، كانت أفضل بكثير من رائحة السيدات المتباهيات، كنّ يخرجن بروية من شققهن الفاخرة، وكنت أغار دوماً من مرافقتهنّ لأبنائهنّ، كلما لمحت ذاك الحنان الغريب، شعرت بخيبة الحياة وآلامها وكلما دخلت إلى تلك المباني، تذكرت أحاديث النساء ونحن في الغابات نحاول اللجوء إلى أوطان أخرى، كانت الغابات مفزعة، وأصوات الظلام مزعجة، وصورة أمي الحبيبة لم تكن تفارق عيناي، فإني لم أودّعها، ولم أحظَ بفرصة لشمّ رائحتها لآخر مرّة، بحثت عن جثتها في كل مكان، لكن دون جدوى.

آخر مرّة رأيتها كانت برفقة أخي الصغير، وعمّتي العجوز، بعد القصف، قصدت مكانهم، وجدت جثثهم، ودّعتها، لكن سلامي لأمّي بقي حبيساً بداخلي. وأنا غائص في مخيلاتي الثمينة، لمحت تلك السيدة التي كنت أنتظرها كل صباح، أسرعت إليها، قدّمت لها الصحيفة، مدّت يدها حاملة ورقة نقدية، قيمتها تفوق بكثير ثمن الصحف التي أحملها، ابتسمت، ثم خرجت فرحاً مسرعاً إلى ساحة اللاجئين. في اليوم التالي، بعت ما بعت من الصحف، دخلت المبنى أنتظر خروج تلك السيدة المبهرة، فتحت الباب، نادتني باسمي! استغربت:"  من أين تعرف اسمي"؟ اقتربت، طلبت مني الدخول، دخلت، طلبت مني الجلوس جلست، أحضرت الأكل، أكلت، أعطتني بعض الأوراق النقدية، فتحت الباب، خرجت. لم أتمكن أبدا من رؤية وجهها بوضوح، لقد كان مختفياً وراء تلك القبعة السوداء.

أثناء خروجي، صادفت رجلاً مسنّاً، ما إن رأته السيدة، تغيّر لون ذقنها الظاهر، وبدأت يداها بالارتجاف، فصرخ قائلاً: "من هذا المتسكع؟ إنه شاب! ألا تخجلين من نفسك؟"، تابعت السّير كأن شيئاً لم يحدث، لم أرضَ أن أسمع أجوبة السيدة، ما كانت إلاّ لتذكرني بحالي التعيس مجدّداً. تجوّلت في المدينة بفخر، فجيوبي المهترئة ثقيلة، اشتريت الأكل ولباساً جديداً، لكن ما أن رجعت إلى ساحة اللاجئين، اعترض طريقي ثلاثة لصوص، ضربوني بقوّة، وأخذو ما تبقّى من المال.

بعد أيام معدودة، نهضت من سريري التّرابي، كانت كدمات وجهي لاتزال بارزة، لكني اشتقت إلى تلك السيّدة الرّؤوفة، قصدت المبنى بفرح، ما أن وصلت، لمحت ابنتها الصغيرة تلهو رفقة صديقاتها، فجأة، سقطت، شرعت في البكاء، أسرعت إليها، حملتها، لكن أباها الغاضب خرج صائحاً، أمسكني بقوة، أبرحني ضرباً، ثمّ أمر رجاله بالمثل، حينئذ، خرجت السيّدة مسرعة، أبعدت عنّي رجال زوجها، نظرت إليّ باكية، وقالت: "كيف حالك"؟ قلت مندهشا: "كنت أعلم أنّه بك شيء غريب سيّدتي"، قالت بوجه محزون: "أرجوك لا تقل سيّدتي!"، قلت مبتسماً: "كلّ ما أردته هو أن أوصل لك سلامي الذي حُبِسَ بداخلي طوال السّبع سنوات، وداعاً أمّي"، ودّعتها، فقدت وعيي، فقدت وعيي للأبد. 

 





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

اقرأ ايضاً