لفتتني جداً إحدى افتتاحيات صحيفة الـ «نيويورك تايمز». كانت تتحدث عن الرئيس الأميركي «الجديد» دونالد ترامب. تبدأ حديثها بمناقشة «مبدأ» في السياسة الخارجية لم يتبعه ترامب. فهي تقول إن الولايات المتحدة الأميركية لا تشهد حالياً «أزمة كبرى» في سياستها الخارجية تدفع ترامب لأن يبدأ أيامه الأولى بطريقة مختلفة كالتي بدأها من مواقف وتصريحات حادّة هنا وهناك.
كان يجب عليه والعالَم وزعماؤه يتوقون إلى لقائه، أن يشرح لهم موقفه السياسي والاقتصادي والثقافي تجاه الكثير من الملفات، وما هي الخطوات التي سيقوم بها. ومَنْ لديه منهم «هواجس» يُبددها له وخصوصاً مع الحلفاء كي يقيم معهم ما أسمته أساساً لمقاربات «مشتركة» لكل التحديات التي يشهدها العالم. لكنه لم يفعل، بل وفَعَلَ عكس ذلك تماماً وهو أمر مستغرَب.
لقد أهان رؤساء دول حليفة لواشنطن كالرئيس المكسيكي إنريك بينا نيتو بشأن الجدار الفاصل وتكاليفه وكذلك الهجرة وقضايا الصناعة. والمعروف أن المكسيك هي ثالث أهم شريك تجاري مع الولايات المتحدة، حتى اضطر نيتو لأن يُلغي زيارته لواشنطن حين بدا أنه خصم لا حليف.
أما ما جرى مع رئيس وزراء أستراليا مالكولم تيرنبول فهو سابقة بكل المقاييس، حين وصف ترامب مكالمته تلك بأنها «كانت أسوأ مكالمة حتى الآن». فما قِيْل هو أن الرئيس ترامب أنهى مكالمته من دون توديع بل بصوت عالٍ. لقد تصرَّف هكذا مع رئيس دولة حليفة ذهبت من دون تردد وراء الولايات المتحدة «في مستنقعاتها العسكرية في العراق وفي أفغانستان» بحسب وصف الصحيفة، وهي لاتزال واحدة من الشركاء الأساسيين في تبادل المعلومات الأمنية والاستخباراتية مع واشنطن.
كذلك تحدث ترامب عن بقية حلفاء بلاده التاريخيين في أوروبا وكأنهم خصوم يستغلون الولايات المتحدة في قوتها العسكرية والاقتصادية. وهو بذلك يهشّم تاريخاً من الثقة بعضها تمتد لـ 70 سنة.
وتنقل الـ «نيويورك تايمز» عن ترامب أنه قال للحاضرين في الإفطار الوطني الدعوي بالنص: «عندما تصلكم أخبار المكالمات الحادة التي أجريها، لا تقلقوا بسببها. هي حادة. وعلينا أن نتحلى بالحدة. إننا نتعرض لاستغلال كل دولة في العالم، حرفياً. ولن يستمر هذا». إنها لا تعكس أبداً صورة رئيس أقوى دولة في العالم. وهو بذلك يُشتت التحالفات من حوله ويجعل العلاقة معه صعبة.
المشكلة أن هذا السلوك ولَّد انقساماً في النظرة إلى الرئيس ذاته ثم إلى الإدارة التي بَدَت غير متجانسة مع نفسها. وبات البعض ينأى بنفسه عنها حتى من المرشحين لتولي مناصب فيها. لقد بدأت عملها بالتشظي ومازالت. هل تتذكرون مقال جيمس مان في الصحيفة ذاتها عندما تحدث عن ذلك قبل شهرين تقريباً؟ لقد قال كلاماً أصبح اليوم متحققاً تماماً لوصف الإدارة الجديدة.
فما بين ريكس تيلرسون عديم الخبرة، إلى خلاف أهم شخصيتين في الإدارة وهما وزير الدفاع الجنرال جيمس ماتيس ومستشار الرئيس للأمن القومي المستقيل الجنرال مايكل فلين، إذ كان الأول من مؤيدي الاتفاق النووي والثاني من معارضيه، وكانا يتماحكان علنا بالألسن. وكان مان يذهب إلى أن هذا النوع من التوزير لا يقوم به سوى مَنْ هم منغمسون في عقلية رجال الأعمال الذين يجعلون الأفراد العاملين في دائرتهم يتناطحون ليختاروا الفائز منهم ليقاتلوا به.
أما النظرة السلبية عن هذه الإدارة في الخارج فهو أمر لا يحجبه شيء. فمثل هذه النزعة المنفّرة لا تجعل الحلفاء يأمنونها. وربما كان تصريح مفوضة الاتحاد الأوروبي السامية للسياسة الخارجية، فيديريكا موغيريني قبل أيام هو أكثر تصريحات الحلفاء وضوحاً حين أكّدت مخاوفها من عدم قدرة هذه الإدارة على قيادة العالم في ظل وضع متنافر وحاد يسودها. إدارة تصِف الأوروبيين بأنهم «غير منصفين» مع الولايات المتحدة، ولا يميل رئيسها (ترامب) إلى الموقف الأوروبي المعادي لروسيا بشكل أساسي كما هو موقف الأوربيين وتحديداً البريطانيين والليتوانيين ثم تالياً الألمان والفرنسيين.
قد لا نرى في منطقتنا كل هذا «الخوف» الأوروبي من أميركا ترامب بشأن روسيا؛ لكن ذلك لا يُغيّر من واقعهم شيئاً. 50 دولة وكياناً في أوروبا و740 مليون أوروبي أصبحوا في وادٍ غير الذي يتواجد فيه ترامب بشأن روسيا على الأقل حتى هذه اللحظة. خلال لقاء وزيرَيْ الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأميركي ريكس تيلرسون اتفق تصريحا الرجلين في استخدام لفظة «البراغماتية» باعتبارها الأساس الذي يحكم العلاقة «الجديدة» بين موسكو وواشنطن. هذا الأمر لا يستقيم مع هواجس الأوروبيين.
بل حتى اليابان في الشرق تنظر إلى الأمر بالمقاربة ذاتها. فهي ترى روسيا وخلال العام 2016 زادت من قوتها القتالية في المنطقة العسكرية الشرقية صوب آسيا والمحيط الهادئ بأكثر من 10 في المئة، ورُفِعَت «عدد كتائب المجموعات التكتيكية إلى 20 كتيبة» و «تلقت القوات الروسية 723 وحدة عتاد من أنواع التسليح الرئيسية ومعدات عسكرية وخاصة» بحسب قول وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، لكن جبهة واشنطن مازالت مع الصين وبحرها الجنوبي وليس الروس!
هذه تحولات دولية كبيرة ستؤثر على كل شيء تقريباً إذا ما استمرت واستفحلت. فهي تعني أن النظام الدولي الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية بات متغيراً، وأن أجواء ما بعد حرب الخليج الثانية في طريقها إلى الاضمحلال.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5280 - الأحد 19 فبراير 2017م الموافق 22 جمادى الأولى 1438هـ
الرئيس الأمريكي الجديد هو بمثابة طريقة حلب المواشي : فمن سبقه من الرؤساء كانوا يحلبون عن الطريقة البدائية باليد وبطريقة لطيفة حيث لا تؤذي الحيوان ، امّا طرامب فهو يحلب عن طريق ماكينة حلب حديثة وقويّة جدا بحيث تحلب الضرع حتى يصل للدمّ وربما يشفط الدمّ بعد الحليب حتى لا يبقي شيء للعجول الصغيرة لهذه المواشي .
طرامب او ترامب لا يخفي تلك السياسة ويصرّح بها في كل....