«لا يولد البشر طائفيين، بل بشرا وحسب»، هكذا، وكما قال النبي (ص): «يولد المرء على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصِّرانه - وفي رواية - أو يمجّسانه». ونحن نربي ونعلّم أطفالنا على الكثير من السلوكيات والأقوال والنظريات فإما نجعل منهم طائفيين انعزاليين، ويحاولون الانزواء عن الغير والتقوقع على ذواتهم وكيانهم الطائفي، وإما أن نجعل منهم مشاركين ومساهمين مع غيرهم من أبناء الوطن في البناء والتنمية والمشاركة المجتمعية الفاعلة، ومنصهرين في الجماعة الوطنية التي تبنى على أسس سليمة وواضحة في الحقوق والواجبات، لا تمييز بين أحد من أبناء الوطن في ذلك.
الطائفية لغة نسبة إلى الطائفة، وهي مجموعة من البشر تربطها قيم ومبادئ مشتركة، كالنسب أو الدين أو المذهب. والطائفية التي نشير إليها في هذا المبحث هي الانتماء (بتعصب) من جانب الفرد إلى أحد المذهبين الكريمين (السنة أو الشيعة) ويحمل الشخص المتعصب لطائفته لقب (الطائفي) كأن يقال مثلا: سني/ طائفي، شيعي/ طائفي... وهكذا. ويكون - هذا الطائفي- فعله ورأيه هو تصحيح الخطأ الذي يصدر من أبناء طائفته وتخطئة الصواب الذي يصدر من أبناء الطوائف الأخرى.
فالطائفية بصورة مبسّطة هي نقيض الوطنية وضد الوطن، نقيض الأولى لأنها تلغي أو تحقّر الطوائف الأخرى وتنتقص من حقوقهم كمواطنين، وضد الثاني (الوطن) لأنها تجعل الولاء لكيان الطائفة هو الأساس، أما الولاء للوطن فهو طارئ وعارض. والطائفية هي تمييز المرء طائفته عن مختلف الطوائف والفئات بمجموعة من الحقوق والامتيازات، إذا فهي تمييز طائفة من البشر (قبيلة كانت أو عرقا أو مذهبا) على طوائف أخرى بأمور عدة لا دخل لها بمبادئ الأديان والمذاهب... فتلك تدعو إلى مبادئ سامية متسامحة مع الإنسان من دون تمييز بين أفراد الجماعة الوطنية إلا بالكفاءة والقدرة الإبداعية والموهبة. والتمييز عادة يكون من قبل أفراد الطوائف أنفسهم، وفي أحيان (قليلة) يكون (التمييز) من قبل سلطات الحكم التي تتخذه سبيلا لكسب مواقف أفراد وطوائف أخرى، وللتحكم والسيطرة على موارد الدولة بصورة محكمة... وعلى خريطة التقسيم الجيوسياسي.
والطائفية لا تبدو أمرا جليا حين الحديث عن الواجبات بل تطفو إلى السطح فقط حينما يكون الحديث عن الحقوق، وهذا واضح جلي ومن عدة وجوه. وحينما يكون النظام السياسي والمنظومة الاجتماعية قائمة على العدل والمساواة في الحقوق والواجبات حينها لا يحتاج المواطن أن ينتمي إلا إلى وطنه وليس إلى طائفته، وأما في ظل وجود خلل في ميزان المساواة وظهور التمييز على صعد مختلفة تستعر الطائفية، وتتوسع قواعدها بقدر الأفراد الذين ينال منهم التمييز... ويكون من صور ذلك: الانجراف خلف قيادات تتبنى خطابات ديماغوجية متشددة وعاطفية أكثر منها متزنة وعقلانية... وتعزف سيمفونيات معروفة، تركز على التفتيت والتقسيم... مع أن «البؤس الاجتماعي» لا يميّز بين طائفة وأخرى.
والطائفية في البحرين، سنية أم شيعية، إلى غاية الآن لاتزال محشورة في النفق السياسي، فالعلاقة بين الطائفتين - في الجانب السياسي- تحتاج إلى ترشيد عقلاني للهيجان السياسي والعواصف السياسية، والتي لا يفيد معها القول: «ما بينه وبينكم فرق، وكله واحد، وإن الجو بديع وقفلي على كل الموضوعات» بل يجب مواجهة هذا الهيجان بترشيد وطني غيور. والطائفية لم تدخل على الجانب الاجتماعي؛ إلا في حالات نادرة، وذلك يفسر مقولة: «إن طبيعة الناس في البحرين طيبة ومتسامحة، ومتآلفين اجتماعيا»، ودليل ذلك الزيارات المتعددة في مناسبات: الحزن/ الفرح، وابتياع/ بيع الناس بعضهم بعضا. ولكن، إلى أي مدى يمكن أن تصمد العلاقة الاجتماعية في مواجهة الجنون السياسي؟ وإلى أي مدى يتأثر الجانب السياسي بالجانب الاجتماعي والعكس؟ ولأن دوام الحال من المحال فلابد من التغيير، السلبي أو الإيجابي، وفي واقعنا البحريني، سلبي إذا تأثر الاجتماعي بالسياسي وإيجابي إذا تأثر السياسي بالاجتماعي. ولكي لا يساء الفهم... فإن الحق في الانتماء إلى أية طائفة والتمسك بها هو حق مشروع ومكفول في شرعة حقوق الإنسان والمواثيق والأعراف الدولية. ولكن تبقى الإشكالية في التعصب والتطرف الأعمى.
خطورة الطائفية
خطورة الطائفية معلومة لدى الجميع، فأمثلة (لبنان، البلد المثقف) و(باكستان، البلد المتخلف) واضحة للعيان، وإن قيل إن الأمر هنا لن يصل إلى ما آلت إليه الأمور في هاتين الدولتين فإنما هي مقولة مجافية للحقيقة، وبالتالي فتلك المقولة لا تحتاج إلى إقامة الحجج لنقضها لأن الحوادث الدامية في الكثير من الدول وأيضا الوقائع التاريخية تكذبها. فإذا كان لبنان البلد الجميل المثقفون أهله أدمته الحروب الطائفية فما المانع من أن يحدث هنا، في البحرين، مثل ما جرى هناك؟! وكما قيل: إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر.
ثم نأتي إلى مرحلة أشد خطورة وهي تقسيم الطائفة الواحدة إلى عدة أطياف، ونسوق مثالا من واقعنا المعاش في البحرين، فحينما أعلنت مجموعة من الأفراد التقدم بتأسيس كيان سياسي يرتكز في مبادئه وحلحلة القضايا المختلفة على مرجعيات دينية مذهبية/ شيعية (جمعية الوفاق الوطني الإسلامية) أعلنت مجموعة أخرى عزمها تشكيل كيان سياسي يرتكز على مرجعيات دينية مذهبية/ سنية، ولكن حينما عادت قيادات أخرى للوطن تمثل خطا آخر داخل الشارع الشيعي، أعلنت عزمها تأسيس مؤسسة دينية مذهبية تعمل في المجال السياسي تحت مسمى (جمعية العمل الإسلامي)، في حين اختلفت الطائفة السنية وانقسمت إلى أربع جمعيات، بعد عدة محاولات، وبعد وضع ميثاق شرف تنسيقي للخروج بتوليفة لجمعية سياسية واحدة؛ إلا أن الأمور سارت نحو تجزئة المجزئ وتطييف المطيف وتقسيم المقسم، فتشظى الشارع السني إلى: جمعية المنبر الوطني الإسلامي، جمعية الوسط العربي الإسلامي الديمقراطي، جمعية الأصالة الإسلامية، جمعية الشورى الإسلامية... والعامل المشترك بين الشارع الإسلامي في البحرين هو صفة الإسلامي أو الإسلامية.... فأين الإسلام من هذا التشرذم؟! وبذلك انقسم الكيان الإسلامي الواحد إلى اثنين وانقسم أحد الاثنين إلى اثنين والآخر إلى أربعة!! وداخل كل تلك الكيانات هناك من يحاول الانشقاق، سواء النفسي أم المادي العضوي عن جمعيته، فالمجال مفتوح للانقسام إذ إن حرية تشكيل الجمعيات مفتوحة والانتماء إليها حق مكفول للجميع!! ومع كل هذا الانقسام وتمزيق كيان الأمة الواحد وتشويه مظهرها العام؛ فإن مكمن الخطورة في وجود من هم متعصبون في كل تلك الطوائف والفرق، وهؤلاء يحاولون إلغاء الآخر بأية وسيلة حجرية/ دموية. فما هي النتيجة حينئذ؟! ولا تشكيك في النوايا...
الخلاصة
في هذا الطرح لا نطالب بإلغاء التاريخ والهوية الكامنة في الفكر والمعتقد، ولكن نطالب بإلغاء الحساسيات الطافية على السطح قبل أن يستفحل أمرها ويستعصي علاجها... ولا يمكن بأي حال من الأحوال نكران واقع موجود في كيان المجتمع، وفي الذاكرة والهوية والثقافة، ولكن أيضا أنه من غير المقبول تكريس هذا الواقع... والعمل على إمداده بما يغذيه ويجعله مستعرا صباح مساء، وكما أيضا ليس من المقبول العمل على تأطير هذه الطائفية وتكريسها، وعمل (مظلة) لها لكي تعمل من خلالها على تمييز أفراد الوطن الواحد، والأسرة الواحدة، التي طالما تغنينا بها! ومن جانب آخر هناك في تلك الجمعيات الطائفية أناس نستطيع أن نسميهم بالطائفيين واللاطائفيين، بمعنى أدق طائفيون مع جماعاتهم وجماهيرهم في الغرف المغلقة - أي عند خاصة الخاصة - وغير طائفيين أمام الطوائف الأخرى والتجمعات السياسية المختلفة، وهؤلاء لا نعلم مدى سلامة تكوينهم النفسي، وازدواج مواقفهم وشخصياتهم، تأكيد الشيء وعدمه، والحجج جاهزة والتبريرات جاهزة أيضا! ولا نعلم هل هي السياسة؟ والترزق من (دكان الطائفية) حينا ومن (الوطنية) في حين آخر؟ هل هي لغة السياسة؟ والتي قد يتحالف فيها هذا السياسي مع الشيطان من أجل الوصول إلى مبتغاه؟! والسياسيون - في الغالب - انتهازيون ونفعيون. ويبقى هؤلاء في عيون الوطن أقزاما في الوطنية عمالقة في الطائفية.
إن هؤلاء الطائفيين - من كلا الفئتين - المرتزقين من (دكان الطائفية) يجب عليهم أن يتذكروا شيئا جميلا اسمه الوطنية، وألا فسيجرجرون في محكمة التاريخ، وسينالون العقاب اللازم لما اقترفته أيديهم وألسنتهم في حق أبناء هذا الوطن، وفي محاولاتهم للتكسب السياسي من (دكان الطائفية)، وهو أمر يتوجب المحاكمة والعقاب!!
إن موضوع الطائفية يحتاج إلى عدة وقفات، أولا: وقفة مع النفس ومكاشفتها والسُّمو بها ناحية الأهداف الوطنية الكبرى، وثانيا: وقفة مع الآخر ومحاورته بضرورة بناء علاقة وطنية متينة، في مصلحة مختلف الأطراف والأطياف، قوامها المساواة في الحقوق والواجبات وتدعيم صور العدالة الاجتماعية المختلفة، وتنمية العلاقات بين مختلف الأطراف والاتجاهات... يجب علينا أن نتجاوز «حدود الطائفة الضيقة إلى فضاء الوطن الواسع» مع الاحتفاظ بالهوية الإسلامية العربية، وبالإسلام الجامع المانع. وللحديث بقية
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 528 - الأحد 15 فبراير 2004م الموافق 23 ذي الحجة 1424هـ