خلال تصفيات كأس العالم للعام 1974، كان من المقرر أن يلتقي منتخب الاتحاد السوفياتي نظيره التشيلي. وكانت مباراة الذهاب قد جَرَت في موسكو قبل الانقلاب الدموي الذي قام به الديكتاتور أوغستو بينوشيه بدعم من الولايات المتحدة ضد الرئيس التشيلي سلفادور أليندي في سبتمبر/ أيلول من العام 1973.
وقد تقرَّر أن تجرى مباراة الإياب في الاستاد الوطني في العاصمة سانتياغو، لكن المنتخب السوفياتي رفض السفر إلى هناك تنديداً بالانقلاب. لذلك دخل المنتخب التشيلي إلى الملعب بمفرده. وبعد أن أذِنَ الحَكَم ببدء اللعب، أخذ اللاعبون التشيليون يمررون الكرة دون خصم داخل المرمى المفتَرَض للمنتخب الغائب.
بعدها أصدرت الفيدرالية السوفياتية لكرة القدم بياناً رسمياً أوضحت فيه أن الرياضيين السوفيات رفضوا إجراء المباراة على الاستاد الوطني بالعاصمة التشيلية؛ لأن الانقلابيين قد حوّلوه بعد العام 1973 إلى معسكر اعتقال للسجناء السياسيين ومكاناً للتعذيب والإعدام. هذه الحادثة يذكرها الصحافي ليونارد كوسيتشيف الذي عَمِلَ في بلدان أميركا اللاتينية ردحاً من الزمن.
كان العسكريون الذين حَكَموا تشيلي بعد الانقلاب على «الرئيس المنتخب» أليندي يريدون وبمساعدة الولايات المتحدة الأميركية أن يمسحوا عارهم بعد أن أذاقوا 400 ألف إنسان ويلات السجون والقتل. وكانوا يعتقدون أنهم بـ «المباريات» يستطيعون أن يُنسوا العالم الجرائم البشعة التي قاموا بها.
لقد كانت تشيلي تعيش في فضاء من «العَوْن الأسوَد» الذي كان يُقدَّم لها من محيط دموي يهيمن على القارة اللاتينية. فالأرجنتين كانت ومنذ العام 1955 تعيش على وَهَجَ الانقلابات العسكرية وطغيان الحكم الديكتاتوري. كذلك الحال في باراغوي وبوليفيا التي أجهِضَ فيها مشروع فيكتور باز استنسيرو بدعم من واشنطن. كان ذلك الحال قد شجّع بينوشيه لأن يحكم شعبه كـ ذئب.
كان هذا الديكتاتور يرى أنه يجب أن تُصاغ الحياة السياسية من جديد في تشيلي، بعد أن يُكْشَط منها كل المعارضين كي يصبح المجتمع السياسي في تشيلي مجتمعاً طيعاً يقبل بأي شيء. كان يُراكِم قمعه للناس بطريقة عجيبة. فمثلاً كان يطلب من السجناء أن يكتبوا التماسات الخروج من السجن بشروط قاسية، ومَنْ يرفض كان يُطرَد من تشيلي، ويمنع مَنْ في الخارج من العودة إليها.
لقد فعل بينوشيه كل شيء كي يحكم كما يريد. سَنّ قوانين مُفصّلة على رغباته وأطلق آلة إعلامية ضخمة كي «تُشيطِن» خصومه، وفي ذات الوقت تُصوّره كـ ملاك جاء ليحكم بلداً مُحطَّما. لقد أسكَتَ كل الأصوات، بل حتى إذاعة ماغالانيس المستقلة قام بقصفها، وباتت الصحف المسموح بها هي فقط التي تُمجِّد في السلطة القائمة، وتبارك أيّ خطوة تقوم بها وتصفها على أنها «إنجاز» لا يُضاهَى، وفي ذات الوقت، تُبرّر لها الانتهاكات التي تقوم بها بحق المعارضيين.
لكن كل تلك الآلة الضخمة من الإعلام الموجّه كانت تتهاوى أمام 6 ساعات من برنامج «فلتسمعنا تشيلي» الذي كان يُبث من الخارج باللغة الإسبانية. وكانت مذيعته «كاتا» لوحدها تكنس كل ذلك الكذب الذي يُقال للناس والعالم عن تشيلي، حتى قال عنها وزير خارجية بينوشيه الأميرال باتريسيو كارفاخال بأن ذلك البرنامج يُسبِّب لنا «من الأذى ما لا يُسببه العالم كله».
وكان اثنان من مثقفي تشيلي الشرفاء في الخارج الذين هجّرهم القمع كـ خوسيه ميغيل باراس وإدواردو لابارغا قادرين لوحدهما أن يقلبا بكتاباتهما وأحاديثهما وإنتاجهما ما يقوم به مئات المثقفين والصحافيين المأجورين عند بينوشيه رأساً على عقب. فالكلمة عادة ما تكون مدعومة بوقائع، وهذه الوقائع لا يشهد عليها طرف واحد فقط، بل العالم كله، لذلك كانت المقاربات بين ما يُقال وما يجري فعلاً هي التي تفرض نفسها على صورة تشيلي ووضعها الداخلي للعالم.
لذلك حقبة بيونشيه وجوقة العسكر معه لم تستمر طويلاً. 17 عاماً كانت كافية كي يتعرّى الحكم ويتخلى عنه الحلفاء بمن فيهم الولايات المتحدة الأميركية، التي بدأت تحاصرها حقائق التغيير في أميركا اللاتينية بعدما كانت تعتبرها مجرد حديقة خلفية لها. ولم يأت العام 1990 حتى بات كل شيء جاهز للتغيير، وتعود الأمور إلى نصابها المحاكي للقيم السياسية السليمة.
وفي العام 2001 بدأت الدعوات تتوالى لمحاكمة بينوشيه الذي كان حينها يبلغ من العمر 85 عاماً. وقد كانت تلك الخطوة في حد ذاتها محاكمة معنوية لشخص ولحقبة أهِيْن فيها الإنسان التشيلي وتعرّض فيها للسجن والتعذيب والقتل. كما وصل الحال برجاله والمحيطين به (كالجنرال مانويل كونتريراس رئيس الشرطة السرية وتوفي مخفوراً في أغسطس 2015) لأن يروا أنفسهم في السجون التي كانت تضم ضحاياهم طيلة 17 عاماً.
ما جرى بعد العام 1973 في تشيلي أكبر من كونه تاريخاً. إنه درس هام يختصر العديد من الصور التي يمنح المرء التفكير برويّة وهو يشاهد الحوادث وهي تتدافع. يجعلنا نتأمّل كيف يُوقِع الإنسان بأخيه الإنسان من الظلم القاسي، في اللحظة التي تغيب عنه محدودية دنياه وعمره الذي ستأتي نهايته حتماً ليوضع في التراب كما يُوضع أي إنسان آخر. هذا الكلام «قد» يُعَد بسيطاً في زمن القوة، لكنه حتماً هو «الأصح» من بين كل الأحاديث التي تقال هنا وهناك عندما يحل الضعف ويأتي خريف العمر.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5278 - الجمعة 17 فبراير 2017م الموافق 20 جمادى الأولى 1438هـ
نعم سنموت و لن نحمل معنا شيء مما جمعنا إلا ظلامة البشر فلنحسن السيرة و ننقي السريرة و الحمد لله رب العالمين.
ابدعت... تسلم أناملك دم بخير
يذكرني وضع التشيلي الذي وصفته يا أستاذ محمد ببيت شعر لابن خفاجة الأندلسي واصفا دويلات ذالك الزمان:
مما يزهدني في أرض أندلس * ألقاب مقتدر فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها * كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد
إن سُكْر القوة ونشوتها تُعمي قلب صاحبها عن أقوى العبر وأصدقها ولا يستفيق إلا حين لا مناص، وحين إنها كلمة هو قائلها.
الواعي هو من يقرأ التاريخ ويتعظ ..هنا يكمن الوعي
من أفضل الكتاب الذين احرص على قراءت مقالاتهم لأني أجد في مقالاتك دائما ما يمزها
ما اشبه ماضي شيلي بوضع البحرين الحالي فلا زلت اتذكّر اغنية ثورية عن سانتياجو