يُقال، إن الروائي الكولومبي الحائز على جائزة نوبل في الآداب العام 1982، حين قرأ رواية «المسخ» (نشرت في العام 1915)، للكاتب التشيكي الألماني فرانز كافكا، قرَّر أن يصبح روائياً. الانشغال بحقيقة ذلك مضيعة للوقت وعبث، لكنه يأتي في سياق تناول العمل المسرحي «مطلب كافكا» وتعرف أيضاً باسم «كافكا/ سامسا»، للكاتبة الأميركية لو هاوزر (ولدت في العام 1924 وتوفيت في العام 2011)، وهو استعادة لشخصيات رئيسية في «المسخ» إذ تصوِّر هاوزر حياة عائلة غريغور سامسا، الضحية المأسوية لتحولات كافكا. العمل نفسه اشتغال واستعادة لتحولات كافكا نفسه. كأنها استعادة لمطلبه الذي عاش من أجل تحققه. أن يتخلص من حال الكابوسية التي وسمت حياته.
غريغور سامسا، ذلك الذي تحوّل إلى حشرة، ليس بفعل تهيؤات وهلوسات تطرأ على الشاب، بل نحن في العمل إزاء تحول في الجسم حقيقي حدث للبائع الجوّال في إحدى الشركات (غريغور)، يصل به إلى بروز قوائم دقيقة له، وبطن منتفخة.
وقع ذلك في براغ العام 1912، غريغور سامسا (اسم كافكا الذي تجسّد في الكتاب) مُوزَّع بين والده، الذي يريده المحافظة على وظيفة بدوام كامل، وبين صداقته مع مجموعة من الفنّانين من المسرح اليديشي، والذين يريدون له الانضمام والكتابة لهم. (اليديشية، لغة يهود أوروبا. يتحدثها ما يقارب 3 ملايين شخص حول العالم، أغلبهم يهود الأشكناز).
إفلاس والده أجبر غريغور على أن يصبح المُعيل للأسرة. العامل البسيط، يُجبر على الاستيقاظ مبكراً ليلحق بقطارات كي يجوب المدن بائعاً متجولاً، في شقاء يومي متكرّر، بالكاد يحقق له دخلاً يستطيع به أن يعول أسرته. يتحرك غريغور بين قطبي حياته هو، والذروة التي يصلها في مرحلة التحول إلى مسخ.
لا ترمي المسرحية إلى الاتكاء على الجانب التاريخي، ولكنها تقوم على الحقائق والوصول إلى كل شخص هو على دراية برواية «المسخ». يمكن ملاحظة أن مأساة غريغور لا تقتصر بعد ذلك على عجزه عن المواءمة مع هذا التحوّل الخارج عن إرادته (تحوّله إلى حشرة)، بل يتعدّى الأمر إلى موقف الأسرة السلبي منه، باستثناء أخته، والتي بدورها تبدأ بالابتعاد عنه، ما يفعل ذلك فعله في تفاقم أزمته الوجودية، ولا يجد بدّاً من الاختفاء عن الأعين. الشقيقة مع التحوّلات الدرامية المتسارعة، سرعان ما تبلور مشاعرها، بحيث تتحوّل إلى مشاعر باردة وغير إنسانية إطلاقاً. تبرز أيضاً رغبة جماعية في الوسط الخاص الذي يعيش فيه في التخلُّص منه.
هنالك مُجسّدون للدور في «المسخ» تعمد هاوزر إلى توسيعه في مسرحيتها، واصفة إياهم بأنهم قمعيون. يتم استخدامهم لمشروع في المستقبل، ينذر مستقبل براغ بالنازية.
تتبَّع المؤرخون إلى حدّ كبير ومن خلال يوميات كافكا، كيف انعكست هذه التجارب على المسرح اليديشي، من خلال موقف كافكا تجاه يهود أوروبا الشرقية وتقاليدهم، والتي تم تسخيرها بشكل روتيني من قبل عائلته.
من جانبهم، أوضح مؤرخو الأدب، كيف أثّرت عروض المسرح اليديشي على كوابيس كافكا؛ كانت النتاجات التي تم استقاؤها من المنامات بسيطة، وعاطفية، غير واقعية، وهنالك قفز غير منطقي في السرد مشوب بنوع من الغرابة.
كان كافكا أيضاً، وبكل بساطة، مسحوراً بالفيض العاطفي والعفوية التي وسمت «العالم القديم»، وكذلك اليهود، الذين وقفوا على النقيض من حيث البرودة واللامبالاة بالمحافظة على أسرته الناطقة باللغة الألمانية. (والده عارض صداقته مع لوي، ووجَّه إليه لوماً «إذا اضطجعت مع الكلاب، ستحصل على البراغيث»، وهو ما أثار استياء ابنه).
بات كافكا نفسه مُدركاً بأنه يهودي غربي في حال من الاغتراب، وهو الشرط الذي كان سيتيح له أن يصبح عالمياً على نحو غريب. ولكن كان في حال من الازدواجية تجاه اليهودية «ماذا لديّ من القواسم المشتركة مع اليهود؟ أنا بالكاد لديّ شيء مشترك مع نفسي». يعكس ذلك ازدواجيته تجاه كل شيء تقريباً، والمفارقات التي سادت روحه. مسرحية هاوزر لا تعيد خلق نتاجات مقهى سافوي، ولكنها تعيد خلق علاقات كافكا مع لوي والسيدة.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 5276 - الأربعاء 15 فبراير 2017م الموافق 18 جمادى الأولى 1438هـ