«الشعر ديوان العرب» مقولة جرت على ألسن أجيال متعاقبة من الأدباء والمثقفين والمؤرخين العرب، بمعنى أن أشعارهم تمثل سجلاً صادقاً لإرثهم الثقافي ولتاريخهم الاجتماعي والسياسي وعلى الأخص خلال العصر «الجاهلي» الذي لم يشهد التدوين، ثم اُطلق «الديوان» في تاريخنا الحديث على مجموعة من قصائد شاعر، أو كل ما نظمه من شعر طوال حياته. ويمكننا القول في هذا الصدد إن قصائد الشاعر العراقي الكبير الراحل محمد مهدي الجواهري هي بوجه من الوجوه ديوان لتاريخ العراق على مدى القرن العشرين حيث كانت، وعلى الأخص السياسية منها، شاهدةً على هذا القرن الحافل بالحوادث الكبرى لبلاده فضلاً عن العالم، هو الذي وُلد في مدينة النجف الأشرف في مطلع القرن العام 1901 (وقيل 1899) وتُوفي خلال عهد الدكتاتور صدام حُسين في منفاه بدمشق في أواخر القرن العام 1997 ودُفن في السيدة زينب، وبالتالي تحلُّ خلال عامنا الجاري وتحديداً في يوليو/ تموز المُقبل الذكرى العشرون لوفاته.
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فإنه مضت أيضاً خلال الشهر الماضي الذكرى السبعون للهبة الجماهيرية العراقية التي شارك فيها مختلف فئات وطوائف الشعب العراقي ضد معاهدة بورتسموث الإنجليزية - العراقية التي وُقعت في يناير/ كانون الثاني 1948 خلال العهد الملكي العراقي على البارجة البريطانية «فكتوريا» الراسية عند ميناء بورتسموث ببريطانيا، وهي المعاهدة التي تجبر العراق بأن يسخّر أراضيه ويقدم كل الامتيازات والتسهيلات المنصوص عليها في المعاهدة ذاتها تحت خدمة القوات البريطانية في أي حرب تخوضها في الشرق الأوسط، وقد وقعها عن الجانب العراقي رئيس الوزراء صالح جبر ، الأمر الذي أثار عاصفة من الاحتجاجات والغضب الشعبي العارم فيما عُرفت لاحقاً بـ «هبة كانون الثاني» وعلى رغم سلميتها إلا أن السلطات العراقية لجأت إلى إخمادها بالرصاص ببغداد في يوم 27 يناير 1948 والذي مزّق صدور المتظاهرين العُزّل، وكان من بينهم الشهيد الشاب جعفر شقيق الشاعر الجواهري والذي كان يوم تشييعه، كما أجمع المؤرخون العراقيون ، يوماً مشهوداً غير مسبوق في تاريخ بغداد الحديث على الدماء المسفوحة التي اُريقت، وقد رثاه شاعرنا الجواهري المفجوع بقتله ظلماً بقصيدة عصماء عُدت من عيون أشعاره تحت عنوان «أخي جعفر» وكان قد ألقاها في مثل هذا اليوم 14 فبراير/ شباط من العام نفسه في جامع «الحيدر خانة» ببغداد وسط حشد جماهيري كبير من مختلف فئات الشعب، وفيها يقول:
أتعلمُ أم أنت لا تعلمُ
بأن جراحَ الضحايا فمُ
فمٌ ليس كالمدّعي قولةً
وليس كآخرَ يسترحمُ
يصيحُ على المُدقعين الجياع
أريقوا دماءَكمُ تُطعموا
ويهتفُ بالنفرِ المُهطِعين
أهينوا لئامكمُ تُكرموا
أتعلمُ أنّ جراح الشهيد
تظلُّ عن الثأرِ تستفهمُ
لكن ثمة قصائد كثيرة أخرى تعُبّر عن صدق مشاعره الجيّاشة تجاه حوادث العراق الجسام كان شاهداً عليها وألقاها في مناسبات وطنية تاريخية وسياسية أخرى، علماً بأن الجواهري قد عاصر حوادث ثورة العشرين الوطنية الكبرى ضد الغزو الانجليزي للعراق وهو عشريني العمر وبخاصة إن مدينته النجف كانت المعقل الرئيسي لتلك الثورة، ونظم في ذلك طائفة من قصائده الأولى. والجواهري الذي يُعد واحداً من عمالقة شعراء القرن العشرين العرب، عاصر أيضاً في شبابه اليافع الشاعرين المصريين الكبيرين أمير الشعراء أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وقد خص كلاً منهما على حدة بقصيدة رثاه بها غداة وفاتهما العام 1932.
والحال أن الجواهري لم يكن بأشعاره شاهداً على حوادث القرن العشرين لبلاده فحسب، بل كانت تعكس نبض المجتمع العراقي في مخاضه المؤلم نحو الانعتاق الشامل سياسيّاً وحضاريّاً من الاستعمار «الكولونيالي» وفي انحيازه لأبناء شعبه بمختلف دياناته وطوائفه وأقلياته ضد الأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة أو ما اصطلح بعض المفكرين العرب على تسميتها بـ «الاستعمار الداخلي»، أي أنظمة الاستبداد العربية التي حلت بعد الاستقلال، ولم تختلف عن الاستعمار شيئاً في وحشيتها في إخمادها حراكات شعوبها المطلبية إن لم تتفوق عليه.
ومن أسفٍ أن شاعراً عربيّاً عملاقاً بحجم الجواهري ملأ الدنيا وشغل العالم، وعلى رغم أنه معروف لدى أوساط النخبتين السياسية والأدبية في عالمنا العربي إلا أنه مازال مُغيّباً مُجّهلاً في مناهج التعليم ومعظم وسائل الإعلام العربية.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5274 - الإثنين 13 فبراير 2017م الموافق 16 جمادى الأولى 1438هـ
اذا كان هواك ونهجك حب اهل البيت النبوي وعنوانك علي والحسين فالتغييب القسري رفيقك ولو كنت تفوق الشمس ضياء
هذه اسباب عدم ذكرهم له رغم كل معرفتهم به
رحمه الله
وهو صاحب قصيدة تتردد من على المنابر على لسان الخطباء إنها روعة شممت ثراك فهب النسيم نسيم الكرامة من بلقعي رحمة الله على روحه الطاهرة.