كعادة أفلام هوليود تبدأ أحداث فيلم «الوافد Arrival» أو القادم، التي تركزت عقدتها ودارت أحداثها حول فرضية وجود حياة خارج كوكب الأرض، وإن هناك مخلوقات فضائية يأتون للقضاء على أهل الأرض أو طلب مساعدتهم أو التعايش معهم أو تهديدهم، بيدَ أن فكرة فيلم الوافد كانت حول الخوف والحذر والترقب؛ «هم هنا ولا نعرف ما الذي يريدون؟ ما هي نواياهم ومآربهم؟ ما لغزهم؟»
من حيث التصنيف «الوافد Arrival» فيلم إثارة وخيال علمي، وذكر بعض النقاد أن حكايته مقتبسة من قصة «حياتك» للمؤلف تيد تشيانغ. عرض للمرة الأولى في مهرجان البندقية السينمائي بداية (سبتمبر/ أيلول 2016)، وبلغت إيرادته «141 مليون دولار أميركي» كما اختير في 2016 من «معهد الفيلم الأميركي» و»المجلس الوطني للمراجعة» من بين أفضل 100 فيلم، وتلقى 8 ترشيحات لجوائز الأوسكار. الفيلم من بطولة إيمي آدمز في دور «لويز البنوك»، وجيرمي رينر في دور «إيان دونلي» وفورست ويتيكر في دور «العقيد ويبر».
رحلة التواصل
تدور أحداث «الوافد Arrival» حول 12 سفينة فضائية تطوف حول العالم بصورة غامضة وعشوائية وتهبط في بعض مناطق الكوكب، منها «مونتانا الريفية»، وهي تختلف عما شاهدناه سابقاً في أفلام الخيال العلمي، حيث تأخذ شكل عدسة طولية متجهة إلى الأسفل. إثر الحدث يتم تجنيد فريق من القوات الأميركية يقوده العقيد ويبر، ويتألف من خبراء لغات وفيزيائيين على رأسهم عالمة لغويات تدعى «لويز» وعالم فيزياء «إيان»، حيث يطلب منهم تقصي حقيقة ما يجري، ومعرفة سبب وصول الوافدين إلى كوكب الأرض، وخصوصاً أن العالم يتأرجح على شفا حرب عالمية وأميركا يلفها شعورٌ بالفزع والقلق والنهب يندلع في مدنها وحديث الإعلام عن ضرورة استعراض القوة، ومع إن جهود الفريق مقيدة من الاستخبارات؛ إلا أن لويز كانت تسابق الزمن للعثور على إجابات بهذا الشأن، ولبلوغ هذه الغاية تخاطر بحياتها وبما قد يهدد البشرية بأسرها.
إن التواصل الوحيد بين الفريق وبين الوافدين الفضائيين كان يتم من خلال فتحة واحدة في الجزء السفلي من السفينة الفضائية؛ وفي هذا دلالة على رغبتهم في التواصل، حيث كلفت عالمة اللغويات لويز بفتح حوار معهم وترجمة أصواتهم غير المفهومة فيما يتولى الفيزيائي الخبير إيان معرفة كيف للسفينة الفضائية القدرة على السفر عبر الفضاء، وكيف تتحدى الجاذبية؟ لكن السؤال الأهم الذي يستوجب على الفريق الإجابة عليه هو السؤال: لماذا قدموا؟
في محاولة تواصل الفريق مع الفضائيين ومعرفة سبب قدومهم أو «مؤامرتهم المحتملة»، كان يفتح باب السفينة كل 18 ساعة ويسمح للجيش والعلماء بالدخول، وقتها اكتشفوا -أي فريق الخبراء- أن الفضائيين يتمركزون على علوٍّ شاهق. وفي بيئة غامضة مملوءة بالدخان الذي يغلف السفينة تتغلب على المشهد صور بصرية تتمايل بين الضوء والظلمة وأصوات غريبة تصدر عن مخلوقات تزحف على سبع وأشكالها أقرب إلى الأخطبوط، تأخذ المخلوقات شكل أحبار يحجبها الضباب أحياناً من خلف زجاح، أما لغة التواصل اللفظية والكتابية التي سعت لويز إلى فك رموزها وقراءة شفرات رسائلهم، ما هي إلا عبارة عن مجموعة دوائر متشابكة ومعقدة تتشكل من اختفاء الحبر وظهوره، فهم القادمون من عالم غريب يثير السؤال: عن كيف توافرت البراعة لهذه المخلوقات في صياغة وسيلة متطورة كسفينتهم الفضائية، وهذا ما يزيد الموقف غموضاً والتباساً ويضع علامات استفهام لانطلاق الخيال. إن الأجابة فتحت باب التساؤلات والبحث عن أسلوب كتابتهم الغريبة بالحبر الأسود، وعن طبيعة وجودهم، وعلى رغم الغرابة فإن المرء يشعر بوجود حياة أو حضارة ما.
ولأن في هذا العالم ثمة من يده على الزناد، ونفد صبره في انتظار فك ألغاز الرموز، ومع جاهزية دعاة الحرب، تتفوق لحظة العنف على منطق التواصل والتعرّف، وخصوصاً بعد أن حدث لبس مَّا حول ترجمة جملة كتبها الفضائيون كسبب لمجيئهم، وكانت الجملة تحتمل عبارة «استخدام السلاح» أو «إهداء السلاح»، أو كما ظنت لويز أن كلمة «السلاح» تحتمل معنى آخر في لغتهم وهو «أداة»، ولاعتقادها بأن سبب اختلاف اللغات بين سكان الأرض جعل من بعض الدول تتخذ موقفاً عدائيّاً تجاه الوافدين فقامت بمهاجمتهم.
الذات وقيمها
في سياق مجريات الفيلم، وخلفية المشهد تميز أداء إيان ولويز بالدينامية، واستطاعت لويز من خلال أدائها لعب شخصية تتصف بالاضطراب والتناقض، فهي تستعيد في أحلامها أثناء النوم بداية ولادة ابنتها التي توفيت بسبب السرطان، وتقفز لها في الحلم فكرة أن ابنتها تستطيع قراءة المستقبل والتنبؤ به، فقد كانت خائفة من الوافدين، لكنها قبلت التحدي في حياتها المهنية، الأمر الذي ساعدها على التواصل والتشارك اللغوي معهم وهي الممزقة المشاعر والمسكونة بخسارتها المأساوية لابنتها، حفزها ذلك للتعمق أكثر فأكثر في اكتشاف الذات وقيمها وقضايا الحب والفقد فأصبحت حياتها أقرب إلى الوضوح، إن الحزن الذي كانت تعاني منه وحس الفضول لديها شكلا دافعاً قويّاً للمجازفة بحياتها في التعرض للتلوث ولاسيما حين يقفز الحدث إلى ذروته التعبيرية وتخلع الملابس الحمائية الثقيلة التي ترتديها؛ كي تكون على طبيعتها وأكثر وضوحاً وسهولة في التواصل، وكانت تحلم أثناء تطور أحداث الفيلم بأنها تلتقي الرئيس الصيني وتحاول إقناعه بالتوقف عن مهاجمة الفضائيين.
لكنه في الواقع صراع يدور في أروقة القوات الأميركية بين فريق يؤيد المخاطبة والتواصل، وآخر يعبر عن موقف عدائي تجاه الوافدين، ويريد مهاجمتهم، وهذا ما حدث في نهاية المطاف وخارج إرادة فريق الخبراء.
بعد رحيل السفن الفضائية عن الأرض بسبب الهجوم عليها، تبدأ محاولات حثيثة بين لويز وإيان لمعرفة ما الذي كان يحاول الوافدون قوله لنا، فيدركان أن هدفهم كان لمشاركة سكان الأرض تكنولوجيا التحكم بالزمن.
ختاماً يعبث الفيلم برؤوسنا في رحلة بحث عميقة عن فكرة تركتها أحداث الفيلم من خلال قضايا إشكالية مفتوحة على التأويل، ومع ذلك فالإنسان لايزال يمتلك القدرة على إثارة الأسئلة الوجودية المتعلقة بإنسانيتنا، وكيفية تعاطينا مع الآخر المختلف، بحسن نية أو سوء نية، بتوجس وخوف أم بثقة ومبادرة، بتقبل أو برفض، إنها خياراتنا المفتوحة لاكتشاف قيمة الذات من خلال الانفتاح على الآخر.
الفيلم يقدم لنا من خلال مشاهد بصرية ومسموعة قضايا فكرية وهي فرصتنا للتعمق في مغزى مفهوم الإنسانية وجوهرها عبر مساءلة الذات ومعرفتها من خلال اكتشاف الآخر المختلف، وكيف يمكن معرفة لغته والتواصل معه عبر إنسانيتنا، إن التواصل عنصر مهم كي نفهم أنفسنا ونفهم العالم.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 5270 - الخميس 09 فبراير 2017م الموافق 12 جمادى الأولى 1438هـ