كثيرون قرأوا ما صرّح به المواطن الكندي من أصل جزائري العربي يحيى وهو يصف مجزرة كيبك. هذه المجزرة التي راح ضحيتها 6 من المسلمين قتلى (أي 12 في المئة من المصلين) و19 جريحاً (أي 38 في المئة من المصلين) اثنان منهم في حالة حرجة، بعد أن قام شاب كَنَدِي فرنسي مسلح بإطلاق النار على المصلين في مسجد المركز الثقافي الإسلامي في مقاطعة كيبك شرق كندا نهاية شهر يناير/ كانون الثاني2017.
أهمية ما قاله العربي لصحيفة «لا برس» الكندية نابع من كونه أحد الناجين من تلك المجزرة. ولو لم يُقيّض له الله عمراً جديداً لكان إلى جانب صديقه خالد بلقاسمي مهندس التغذية الفلاحية بجامعة لافال الكندية المرموقة الذي قُتِلَ فوراً، فقد كان العربي على بُعد أمتار من القاتل ألكسندر بيسونيت (27) الدارس (عجباً) للعلوم السياسية والإنثروبولوجيا! لكن قُدِّر له أن يعيش ويروي ما جرى.
وصف يحيى القاتل بأنه «كان يصطادنا كما تُصطاد الأرانب! لقد بدا في غاية الثقة بالنفس، كان يعيد تلقيم سلاحه بعد سقوط كل واحد منا». وأضاف «لقد نظرنا في عيون بعضنا جيداً أنا وهو، رأيتُ سلاحه وعاينتُ برودة الدم التي كان يقضي بها على المصلّين». و»لسبب لا أعرفه إلى الآن، تفادى القاتل رميي بالرصاص»، متمنياً أن تكون تلك الحادثة «مجرّد عمل معزول، وألا يكون لها أي تأثير على العلاقات الرائعة الموجودة بين أبناء الثقافات المختلفة والكثيرة في كيبك».
لن أسهِب في تفاصيل ما جرى، لأنني أرغب في الكتابة عن مشهد أوسع. سأتحدث عن هذا البلد الذي يأكل أغلب أراضي أميركا الشمالية. فمساحة كندا هي 9 ملايين و984 ألفاً و670 كم. أي أنها أكبر من بلادي البحرين بـ 10 آلاف و683 مرة تقريباً. وهو بلد كـ غيره من البلدان العشرة في تلك القارة، قد تَشَكَّل بفعل الهجرات التي تمّت منذ اكتشافها قبل عدة قرون. لذلك، ترى الـ 36 مليونا من نفوسه عبارة عن خليط، دفع بالنظام السياسي الناظم لهم لأن يتفدرل كي يستوعب الجميع، ويعترف بعشر لغات تقريباً، اثنتان يتم التعامل بهما رسمياً و8 يُتعامل بها محلياً.
لذلك، كانت حكومة رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو عندما شكّلها واحدة من أفضل تجليات ذلك الخليط. فـ وزير دفاعه هارجيت ساجان هو من أصل هندي، ويذهب إلى الوزارة وهو يعتمر عمامة السيخ المعروفة الذي ينتمي إلى ديانتها (مع زميل آخر له أيضاً).
وفيها جودي ريبولد كوزيرة للعدل وهي من السكان الأصليين لـ كندا. وفيها الأفغانية المسلمة مريم منصف كوزير للمؤسسات الديمقراطية. بل وفيها مَنْ هم معاقون جسدياً مثل كينت هير كوزيرة لـ شئون المحاربين القدامى، وكارلا كالتروه كـ وزيرة للرياضة والمعاقين. وعندما سُئِل ترودو عن هذه التشكيلة قال: «هذه الحكومة تشبه كندا».
وأكثرنا سمع بـ ماريا موراني تلك المرأة الكندية من أصول لبنانية، والتي تبوّأت مقعداً في البرلمان الاتحادي في أوتاوا لثلاث مرات. لكن أهم مِنْ معرفة اسم تلك المرأة هو استذكار ما قالته للصحافة وهو أن تولي منصب ما في كندا هو غير خاضع لمحسوبيات المال أو الجاه أو العائلات النافذة أو الأديان أو اللون أو العِرق أو الثقافة؛ فـ «لا قيمة لهذه الاعتبارات في القاموس السياسي الكندي. وجلّ ما ينبغي توافره في المرشح رجلاً أو إمرأة، أن يحوز على ثقة حزبه وأن يتمتّع برصيد شعبي».
قبل 6 سنوات، جمعني لقاء مع أحد الأكاديميين الخليجيين من عاشوا وعملوا في جامعات كندا. هو يتحدث بإعجاب شديد عن هذا البلد، ويُثني على نظامه التعليمي المتجذر والعريق في أقاليم البلاد العشرة. فـ جامعة لافال التي أتينا على ذكرها يزيد عمرها عن الـ 354 عاماً. وعندما أجريت لقاءً مع مؤلف كتاب «لن أكره» الطبيب الفلسطيني عز الدين أبوالعيش الذي يسكن كندا (نُشِرَ في «الوسط» بتاريخ 25 مايو/ أيار2016) قال لي على هامش اللقاء بأن تطور الطب في كندا يأتي في المرتبة الثالثة على مستوى العالم. وجزء كبير من ذلك التطوّر قد نشأ بفعل المهاجرين، الذين عمَّروا كندا، بمختلف طوائفهم وأديانهم، من يهود ومسيح ومسلمين وغيرهم.
نعم، المجتمع الكندي في أغلبه هو مجتمع مسيحي كاثوليكي. وهذه الغلبة جعلت من هويته الدينية تتطبّع بهذه الصورة، لكن ذلك لم يمنع الأقليات من الظهور بما تحفظه من نواة نشأتها الأولى في الدين والثقافة، كالسيخ والمسلمين على سبيل المثال. فالمسلمون يريدون الشريعة مُحكِّمة لقضايا الأسرة. والمورمون يريدون العيش في مجتمع تقبل قوانينه الزواج المتعدد. واليهود الأرثوذكس يريدون بناء قبب السوكا في أحد أعيادهم دون عوائق. ومجتمع الهتريت يريد أن يتفهّم النظام الفيدرالي حَجْبهم صورهم وهكذا.
مثل هذا التعدد والتنوّع جعل من حادثة كيبك أمراً مروعاً ومداناً في المجتمع الكندي بغالبية منتسبيه. لذلك، فإنه (أي الحادث) انعكاس لثقافة «الذئاب المنفردة» لا أكثر، والتي لا علاقة لها بالتنظيم والتوجيه ولا بالحواضن الشعبية، حتى لو كان مهاجِمَيْن اثنين شاركا بيسونيت فِعلَته.
أقصى ما يمكن أن يُفكَّر فيه اليوم بهدف المعالجة الضرورية هو التساؤل بجديّة: كيف نَسِيَ بيسونيت كَنَدِيّته ليستحضر أكثر أنواع الصور المتطرفة في جذوره الأولى «الفرنسية» حين ظهر مؤيداً لزعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبان. هذا الأمر مهم جداً في مجتمع متنوّع ترك وراءه كل تناقضات مجتمعاته الأولى ومشاكلها كي لا ينقلها في نسيجه الناشئ وعلاقاته الجديدة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5269 - الأربعاء 08 فبراير 2017م الموافق 11 جمادى الأولى 1438هـ
هذا نتيجة انتشار أفكار عصر الديناصور
لا يجب ان ننسى ان بيئة هذه المجتمعات الماضوية هي التي أنتجت الارهاب الذي ألصقته بالدين ومنع الأجيال الجديدة من تأسيس أفكار محايدة بشأنه ،انظمتنا التعليمية البائدة التي لأنتجت عقول فارغة وبالمقابل جاءت الأفكار المتصوفة في الغرب للدفاع عن نفسها بذات الأدوات الديناصورية