في حديث مع أحد الأصدقاء اللبنانيين المهتمين بجمع التراث العربي والإسلامي المخطوط، ذكر أن تراث البحرين العلمي المخطوط يشبه من نواحٍ عدة التراث العلمي لجبل عامل؛ فهو منتشر في مكتبات العالم الخطية الخاصة والعامة.
ولم يكن ما ذكره الصديق الشيخ محمد تقي الفقيه العاملي مؤسس مركز الفقيه العاملي لإحياء التراث - وهو المتتبع الخبير - بعيداً عن الصواب بطبيعة الحال، وخاصة إذا ما علمنا أن حجم المخطوطات العربية في العالم يقدره العارفون بها بنحو ثلاثين مليون مخطوط، وقد سبق أن ذكر مثل ذلك القلقشندي في مطلع القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، حيث قال: «واعلم أن الكتب المصنفة أكثر من أن تحصى، وأجل من أن تحصر؛ ولاسيما الكتب المصنفة في الملة الاسلامية؛ فإنها لم يصنف مثلها في ملة من الملل، ولا قام بنظيرها أمة من الأمم؛ إلا أن منها كتباً مشهورة قد توافرت الدواعي على نقلها والإكثار من نسخها وطارت سمعتها في الآفاق ورُغب في اقتنائها».
ويبدو وصف القلقشندي دقيقاً ويشمل المخطوط البحريني الذي مرّ بجملة من التحديات والمخاطر، قضت على جزء كبير منه، ودمرت جزءاً من تراث إنساني لا يقدّر بثمن، وكنا قد أشرنا إلى بعض تلك الأسباب التي أفضت إلى ضياعها في مقالات سابقة، لكننا هنا سنشير إلى مراحل عملية إحياء التراث المخطوط في البحرين.
أولى هذه المراحل، هي مرحلة الوعي بأهمية جمع وحفظ هذا التراث الفكري واستنقاذه من الضياع، ومن حسن الحظ أن هذا التراث المخطوط وجد طريقه إلى الهجرة في القرون السالفة، وأيّاً كانت الدوافع والأسباب التي دفعته إلى الفرار والهجرة الاضطرارية، فإن استقراره بعيداً عن المخاطر والأوضاع غير المستقرة، كان سبباً في الحفاظ عليه وصيانته من التلف والضياع الأبدي.
من هنا، نجد عدداً من المخطوطات البحرينية تزخر بها المكتبات الشخصية والعامة في كل من القطيف والأحساء وإيران والعراق وسورية ولبنان والهند، وحيثما وصل إليه البحرينيون أو من يتعلق بهم بصلة سبب أو نسب.
ففي إيران على سبيل المثال والتي تحتل المرتبة الثانية من حيث عدد المخطوطات - بعد تركيا العثمانية التي كانت تُجلب لخلفائها الكتب من كل مكان - تتفاوت التقديرات بشأن حجم هذا التراث العربي والإسلامي المخطوط الذي ساهم فيه علماء فرس وعرب في الحضارة الإسلامية في شتى مجالاتها على مرِّ التاريخ، إذا يرى محمود المرعشي النجفي أمين عام مكتبة آية الله المرعشي النجفي، وهي أكبر صرح للمخطوطات بمدينة قم أن عدد المخطوطات المُسجّلة حتى الآن في المكتبات العامة والخاصة في إيران «لا يتجاوز نصف مليون مخطوطة باللغة العربية».
ويُشكّل تراث علماء البحرين جزءاً مهماً من هذا التراث العربي في إيران، ومن أبرز المكتبات الخطية التي تحتفظ بجزء كبير منه: المكتبة الرضوية في مشهد، وفي طهران مكتبة مجلس الشورى الإسلامي. وفي مدينة قم: مكتبة المرعشي النجفي، ومكتبة السيد الكلبيكاني، ومكتبة إحياء التراث الاسلامي، ومؤسسة أهل البيت لإحياء التراث، ومكتبة المسجد الأعظم. أما في مدينة يزد فهناك مكتبة الوزيري، ومكتبة جامعة شيراز ومكتبة السيد محمد علي الروضاتي في شيراز وغيرها.
أما في العراق التي تعيش نهضة غير مسبوقة في حركة إحياء التراث المخطوط تتصدى لها الجامعات العراقية، ومراكز الأبحاث التابعة للعتبات المقدسة وعلى رأسها العتبة الحسينية والعباسية والعلوية، فهناك عدد من المراكز والمكتبات الخطية التي تحتفظ بجزء من تراث البحرين العلمي منها: مكتبة الامام الحكيم العامة، ومكتبة الإمام أمير المؤمنين العامة، ومكتبة آل كاشف الغطاء بالنجف الأشرف، والمتحف العراقي، والعتبتان الحسينية والعباسية وعدد لا يحصى من المكتبات الشخصية للعلماء والبيوتات العلمية.
وبطبيعة الحال، فإن ما بقي من هذا التراث المخطوط في البحرين أو المجلوب من الخارج يشكل بدوره جزءاً لا يستهان بقيمته وحجمه، إذ ظهرت شخصيات عُرفت بجمع التراث المخطوط وأبرزها: الشيخ حسين البلادي القديحي (ت 1387هـ/1967م) الذي اعتمد آقا بزرك على مكتبته الشخصية في فهرسة عدد من المُصنفات الخطية النادرة في موسوعته: (الذريعة)، وكذلك المؤرخ محمد علي التاجر (ت 1387هـ/ 1967م)، والشيخ محمد صالح العريبي (ت 1421هـ/ 2000م)، ومكتبة العريبي هذه استفاد منها أغلب المحققين والدارسين للتراث البحراني، وقد آلت مقتنياتها الخطية إلى الوجيه الفاضل جلال حسن العالي، وأصدرت باكورة إنتاجها العام 2016م (ديوان محمد علي التاجر) بتحقيق الشيخ إسماعيل الكلداري.
وكان لهذه الجهود أثرٌ حسن في جمع وحفظ البقية الباقية من التراث البحريني المبعثر، وتقديمه وإتاحته - ولم يكن الأمر يخلوا من صعوبة - للدارسين والمهتمين بالتراث العلمي البحراني من الدارسين من أهل التحقيق وطلبة العلم والأكاديميين من أهل الاختصاص.
وشكّلت مرحلة جمع وحفظ التراث المخطوط هذه نقطة البداية التي أعطت منطلقاً وزخماً لحركة إحياء التراث العلمي، وأوجدت الأرضية فيما بعد لظهور المحققين البحرينيين، وتأسيس وانطلاق نشاط المراكز العلمية في نشر التراث وتحقيقه، ومن ثم تنامي حركة النشر للفهارس والمجلات التراثية التي تعنى بشكل خاص بقضايا التراث والتاريخ، وهي مراحل سنحاول التعرض لها في مقالات مقبلة.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 5267 - الإثنين 06 فبراير 2017م الموافق 09 جمادى الأولى 1438هـ
جميلة هذه الالتفاتة أبا علاء .. حيث تعرضت إلى مقدمة وجهود السابقين واللاحقين ونتيجة هذه الجهود التي أثمرت الاهتمام بهذا التراث الكبير إلى الوقت الراهن .. موفق لكل خير.
الشكر لكم ياصديقي
مقالة جميلة جدا حول تراث المنطقة وحفظة .
سلمت يدالك ايها الباحث القدير .
شكرا جزيلا لمروركم