في غضون السنوات الأخيرة، كثر الحديث من قبل الكثير من الكتاب والصحافيين والمثقفين وحتى الأدباء بشأن قضية شائكة وذات بعد تاريخي، ألا وهي قضية الظلم بالمعنى العام أو الاجتماعي وما يتبعها من نتائج سلبية.
وقد لوحظ على هذه الكتابات بالإضافة إلى نكرانها هذه القضية جملة وتفصيلاً ومحاولة تلميع الواقع، التأكيد على أن هذا الظلم المدعى ما هو إلا مجرد شعور زائف بالظلامة، وهو شعور غير حقيقي، ولا يوجد ظلم أو حقوق غائبة ولا من يحزنون. أي أن كل هذه الشكوى مجرد شعور وهمي، ليس له أساس في الواقع - إيِ نعم مجرد شعور، يعني حالة نفسية ليس إلا، أو عادة متوارثة عبر الأجيال - هذا بحسب رأيهم.
لكن من يدقق في فحوى تلك الكتابات، وإنْ تدثرت بالمنطق الظاهري، سيجد أنها غير قادرة على إخفاء الحقيقة الساطعة لإشكالية الظلم، وخاصة عندما يمثل ذلك الظلم ظاهرة شاملة وعلى أكثر من صعيد وبالأرقام، بل سيجد المرء أن معظم هذه السرديات/ الكتابات إنما تُظهر سطحيتها وخواءها الفكري والثقافي والسياسي والتحليلي - لكي لا نقول تواطؤها وتعتيمها- في تحليل ظاهرة جداً معقدة، كظاهرة الظلم عموماً، والظلم ذي الخلفية السياسية خصوصاً، أكثر ما تسلط تلك الكتابات الضوء عليها (ظاهرة الظلم) وتكشف ميكانيزمات الظلم الاجتماعي وخلفياته وأبعاده. إنها كتابات أقل ما يقال عنها، إنها إيديولوجية فاقعة، وتسطيحية وتبسيطية أقرب إلى حديث الشارع منها إلى الحديث والكتابة الرصينين.
ربما يكون صحيحاً عندما يشعر أحدنا بأنه مظلوم أو مهضوم الحقوق، فنقول أن ذلك قد يكون من السمات الشخصية لهذا الشخص أو ذاك، وأن ما يشعر به هذا الشخص مجرد وهم وقد يكون حقيقة، ومع ذلك يمكن التحقق من الشعور بهذه الظلامة الفردية فيما إذا كانت حقيقية أو مجرد شعور، ليس له مصداق في الواقع، وذلك بدراسة حالة هذا الشخص. فالشعور في كل الأحوال مؤشر أو عرض لمرض، أو وضع غير سوي يعاني منه شخص ما.
هذا على الصعيد الفردي ، لكن أن يكون الظلم شعوراً جماعياً فهذا ليس شعوراً زائفاً وليس مجرد شعور بالظلم والظلامة. بل يعكس أوضاعاً على الصعيد الواقعي تؤدي إلى هذا الشعور الجمعي.
وهذا الشعور بالظلم لايظهر بين يوم وليلة، إنما له أبعاد تاريخية لأنه شعور جماعي، ويتخذ الشعور الجماعي بالظلم عادة ثلاثة مستويات: المستوى البسيط ويكون الظلم في بدايته، والمستوى المتوسط وفيه يكون الظلم قد قطع شوطاً وتبدو أعراضه هنا وهناك، والمستوى الشديد ويكون الظلم واضحاً للعيان وأكثر شمولاً، ويظهر طابعه المنهجي والتاريخي للعيان، كما أن ردود الأفعال عليه تتخذ أشكالاً عدة وواضحة.
ولكن الظلم الواقع على الآخر في الوقت الذي يعبر عن نفسه كشعور بالظلامة، ويتخذ طابعاً نفسياً جماعياً، هو في الحقيقة جملة من الوقائع المادية الملموسة على الأرض وفي الممارسات ويمكن قياسه وملاحظة مؤشراته. ما معنى ذلك؟
معنى ذلك، وعلى سبيل المثال: عندما تتعايش فئتان أو مجموعتان من البشر في مكان وزمان محددين، وتحظى إحداهما بمنافع ومكاسب ومغانم الخيرالعام المتاحة في الزمان والمكان نفسيهما، في حين لا تحظى المجموعة الأخرى بالامتيازات ذاتها، فإننا في هذه الحال نكون بإزاء خلل كبير في العدالة والتوزيع وتكافؤ الفرص. هذا الخلل الكبير يتم التعبير عنه بمفهوم شامل هو «الظلم» من قبل طرف إزاء طرف آخر.
وعليه لو أردنا أن نعرف حجم ومقدار الظلم، والتأكد فيما إذا كان الظلم مجرد شعور زائف بالمظلومية - أو شعور حقيقي، فإنه يمكن قياس ومعرفة ما تحظى به كل مجموعة من المجموعات الاجتماعية من الخير العام من امتيازات ومكاسب ومنافع ومواقع ومناصب. لا بل يمكن معرفة حجم الظلم في كل قطاع من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية والثقافية كل على حدة، أو مجتمعة.
وأيضاً يمكن معرفة مقدار وحجم ما تتمتع به المجموعات الأخرى من امتيازات ومكاسب على حساب الآخر، وهي مكاسب تتخذ طابعاً مادياً يمكن قياسه. بمعنى أن كل مجموعة تستحوذ على مالها وما لغيرها من مكاسب، هو شكل من أشكال الظلم بإزاء أخرى، هذا الظلم بالمقابل يتبلور لدى من وقع عليهم الظلم في شكل وعي نفسي أو شعور نفسي جمعي من الحرمان والغبن في البداية،
نخلص إلى القول أن الظلامة التاريخية قد تكون أمراً واقعاً وبالملموس، وليس شعوراً زائفاً بالظلامة والظلامة التاريخية ليست بحاجة إلى كبير عناء لتحديد أبعادها أو على الأقل التعرف عليها. يكفي الإشارة إلى بعض المظاهر من قبيل: التمييز السلبي بالمعنى الشامل.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 5265 - السبت 04 فبراير 2017م الموافق 07 جمادى الأولى 1438هـ
استاذي العزيز نعم عشنا وراينا كل هذا معع الاسف لكن الحمدلله الان احسن ونامل بغد مشرق للجميع
من المفارقة انه حتى الأجانب لاحظوا التمييز الفاقع، فعندما يرون عمّالاً في شركة يعرفون على الفور انهم من فئة معينة بل باتوا يعلمون إن هناك وظائف ومناصب في وزارات محدّدة لا تنالها افراد من تلك الفئة إلا في وظائف دنيا من قبيل السياقة او البستنة! ومع ذلك فهناك من اهل البلد من يظل يردد ويكرّر اننا نعيش الوهم والمظلومية الزائفة .. وكما قلت استاذ فإن الأرقام تظهر تلك الحقيقة ساطعة لكل من له قلب يعي .. لنا الله ..
لافض فوك