دعونا نتفق على لفظة «تحريض». فـ «التحريض» هو الحَضّ على الشيء والحث والإحماء عليه كما في القتال. «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُون». سورة الأنفال/ آية 65.
وقد توسّع استخدام كلمة «تحريض» في الأدبيات الحديثة طبقاً لمقتضيات اللغة فأصبح يقال: التحريض الطائفي والعرقي وخلاف ذلك. كما اعتادت الكثير من الأنظمة السياسية في العالم الثالث أن «تُقَولِب» تلك العبارات في تعاملاتها مع خصومها في الداخل والخارج، واعتبار ذلك مدعاة للإدانة والتجريم والمقاضاة.
لكن، قلّما نسمع عن «التحريض» الذي يُسخدم باتجاه مختلف، حين تمارسه أطراف محددة لدفع الحاكم نحو فعلٍ ما ضد أطراف محدّدة أيضاً حين يتم تصويرها على أنها خصم له وتريد به الشر. وهو نوع خطير من التحريض كونه يتعلق بشخص يمتلك من وسائل القوة والنفوذ أكثر من غيره.
وقد سُجِّلَت حوادث تاريخية كثيرة من تراث العرب والمسلمين، أفضى التحريض فيها بالحكام لاتخاذ قرارات بعيدة عن الصواب ومضرة له، فضلاً عن إحداث ظلامات نمَّاها جمر الألم لتصبح هياجاً محموماً. كما سُجِّلت صور أخرى من ذلك التحريض، يمكن قراءتها من التاريخ للعِظَة. لتقرأ.
جاء في المفصل أن حلفاً وصلحاً كان بين الملك عمرو بن هند وطيء، وكان زرارة بن عدس بن دارم الحنظلي يكره طيئاً، فحرّض عَمْراً على غزوهم فتردّد الأخير في بادئ الأمر بسبب حلفه معهم لكن زرارة ألحَّ عليه وأغراه بالغنائم فغزاهم عمرو بن هند وأخذ أسرى منهم، بينهم قيس بن جحدر ابن خالة حاتم الطائي، وكان الأخير بالحيرة فلما بلغ عمرو الحيرة، توسط حاتم لديه فوهبهم له.
لكن جرّة هذا الملك لم تسلم في فعلته الثانية حين حرّضه ندماؤه على عمرو بن كلثوم، وأن أم الأخير (ليلي) تأنف خدمة أمه (هند بنت الحارث)؛ لأنها «ابنت المهلهل وعمها كُليب، وبعلها كلثوم، أفرس العرب، وابنها عمرو سيد قومه» فلما حُرِّض على ذلك وفعَلَ ما فعل لإذلال ليلى، صاحت من الرواق: وا ذلاه! يا لتغلب، فما كان من ابنها إلاّ أن ضرب رأس ابن هند فقتله وسلبه ومضى.
وما دام الحديث عن عمرو بن هند فيجدر بنا الإشارة إلى أن العرب قالت الأمثال فيمَن يُحرَّض ثم يقع في التهلكة ويخسر كل شيء. فقالوا: إنَّ الشَّقِيَّ وَافِدُ البَرَاجِم. وسبب قول هذا المثل المنسوب لـ عمرو بن هند، أن سُوَيْد بن ربيعة التميمي حُرِّض على قتل شقيق عمرو بن هند وهَرَب، فقام الأخير منتقمًا فأحرق مئةً من تميم: تسعةً وتسعين من بني دارم وواحداً من البَرَاجم (من أحياء تميم).
ومواصلة في ذكر الشواهد من التاريخ على سوء تحريض الحكام، ولكن بارتداد التحريض على صاحبه ما ذكره الصفدي في الوفيات من أن سُديف بن مَيْمُون المكّي مولى آل أبي لهب حرّض السفّاح العباسي على قتل مَنْ كان في محسبه من الأمويين فقُتِلوا جميعاً، ثم دخل على المنصور في خلافته ووجد عنده رجلاً أمويّاً آمنه فحرّضه على قتله بأبيات جاء فيها:
لا تُبْقِ من عبد شمس حيّةً ذكراً
تسعى إليك بإرصادٍ وإلحادِ
جدّد لهم رَأْي عزم منك مصطلم
يكون منه عبادياً على الهادي
ولا تقيلن منهم كَثْرَة أحداً
فكلهم وفتاهم حَيَّة الْوَادي
فَقتل المنصور ذلك الأموي، لكن سديفاً هذا صار يطعن في المنصور بعد أن خرج عليه محمد بن عبدالله. فلما بلغ ذلك المنصور قال: «قتلني الله إنْ لم أُسِرْفْ فِي قَتله». فظفر به في المدينة فقتله بعد «جُعِلَ في جُوالق ثم خِيْطَ عليه وضُرِبَ بالخشب ثم رُمِيَ به في بئر وبه رمق حتى مات» كما جاء.
وفي صورة أخرى من صور تحريض الحكام هو حين حُرِّض المستكفي بالله على اضطهاد أبي القاسم الفضل بن المقتدر بالله، فتخفّى الأخير خوفاً، لكن ومع مجيء مُعزّ الدولة إلى بغداد، قام الفضل بالتسلل للوصول إلى مُعزّ الدولة، وحين لاقاه حرَّضه على المستكفي، فما كان من مُعزّ الدولة إلاّ أن قبض على المستكفي فَسَمَلَ عينيه كما جاء في البداية والنهاية لابن كثير.
حادثة أخيرة ذكرها ابن عساكر في تاريخ دمشق وهي أن العباس بن أحمد بن طولون استخَصّ قُواداً من قواد أبيه فحسَّنوا له النصر والغنائم. فتوجّه إلى إفريقيا (ويعني تونس) فنزل لَبْدَة (وهي منطقة بين بَرْقَة وإفريقيا) فأكرمه أهلها لكن العباس خان هذا الكرم وأمَرَ جنوده بِنَهبِهَا فَنُهِبَت وأهلها غافلون مطمئنون إليه، فَقُتِلَ من رجال البلدة الكثير وفُضِحَت نساؤُها. فلما بلغ ذلك إلياسُ بن منصور رأس الإباضيَّة في جَبَلِ نفوسة غضب غضباً شديداً، فسارَ في اثني عشرَ ألفاً من الإباضيَّة، واستعانَ عليهِ بابن الأغلَب، فأرسلَ إليه جيشاً فأطبَقَ الجيشَان على العباس المذكور، فَقُتِلَ صَنادِيدُ عسكره، ونُهِبَت أمواله، ورجع هارباً إلى بَرْقَة مثلما جاء.
الحقيقة أن التاريخ مليء بالشواهد بشأن مسألة تحريض الحكام على القسوة والغدر وإراقة الدم. وهي شواهد من المفترض أن تزيد من الوعي، وتجعل من فرص اتخاذ الرأي السليم أكثر من الفاسد، ولكن أين المتعظون؟!
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5255 - الأربعاء 25 يناير 2017م الموافق 27 ربيع الثاني 1438هـ
الإسقاط الذي استخدمته ليس في محله أبداً ففي ذلك الزمان لم تكن هناك محاكم بها ثلاث طبقات من التقاضي
منذ القدم والقصص كثيرة عن بطانات السوء، وفعلا هذه البطانات بطانات سوء وخبث فلا ترى للتقرّب من الحاكم الا طريق الوشاية والكيد بالآخرين والسبب في ذلك انهم أغلبهم مجموعة من الفاشلين في الحياة، ولا يجيدون الا طريقة الكيد والوشاية بالآخرين.
وفي ظل غياب الحكمة ...
لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم اعوذ بالله من ان نظلم او ان نظلم