استلقى كعادته على فراشه ليستسلم للتفكير وقد غلبته الرغبة في ذلك. لم يعد ينصت منذ عهد ليس بالبعيد إلّا إلى موسيقى عقله. فاعتزّت عليه وأسرته. لم يكن يفكّر في شيء بعينه. بل كان يتفكّر في كلّ شيء. اختلطت الصور فأضحت شريطاً تتداخل فيه الأصوات وتتسارع أشكاله حتّى لا يكاد يرى إلّا القتامة ولا يسمع إلّا أزيزاً جبّاراً يهزّ كيانه حتّى يخاله الموت.
كم الساعة؟ هذا أوّل سؤال يتبادر إلى ذهنه حين يستعيد إحساسه بالحياة. لم تكن الإجابة تهمّه. بل كان ينتشي لمجرّد إدراكه حقيقة لطالما شكّ في صدقها. وهي أنّه لا يزال يرغب في الدخول في غمار الأحياء. لقد انقضى يوم لا يختلف كثيراً عما سبقه من أيّام.
هذا ما كان يسرّه في نفسه فيؤلمه اعتقاده ويؤلمه أكثر من ذلك بوحه به. كان يلازمه خوف من المجهول يدفعه للاجتهاد في دراسته. لقد كان يبحث عن معنى لوجوده. ويعتقد أنّ الحياة سلسلة رتيبة من الأحداث والتجارب تدفعه إلى التعلّم.
وتبيّن له أنّ الموجودات تخاطب الإنسان فلا يفقه حديثها. لأنّه لا يفهم إلّا الأثر الّذي يتركه هذا الخطاب في نفسه. كان يحسّ أنّ اللغة قاصرة لأنّ المدلولات قابعة في النفس البشريّة والألفاظ لا تقوم إلّا بوصفها. فتضيع بذلك المعاني لأنّنا نتوهّم الفهم.
فالناس لا يفهمون بل يبحثون عن معنى للأقوال. وبحثهم هذا مثله كمثل الغوّاص الّذي يسبر أعماق اليمّ. فهو لا يصبر على ذلك إلّا زمنا يقدر عليه. وهو لا يبلغ إلّا عمقاً يطيقه ويشترط في بلوغه الرغبة والاجتهاد. من أجل ذلك تفلت المعاني منه فلا يدرك إلّا أشباهها أو وجهاً من وجوهها. و هذا ما يفسّر الاختلاف في الفهم. أمّا مثل العلم فهو لديه كمثل الهواء الّذي يعينه على الغوص أعمق فأعمق.
لذلك وجب على العاقل الجدّ في تحصيله. لأنّه كالبناء المرصوص يشدّ بعضه بعضاً. أمّا الزيف فهو لفظ يشقيه لأنّ معناه زائف لا محالة. فما الزيف إلّا حقيقة. فالأمر الزائف موجود بقوّة الاعتقاد. والمعاب هو القائل بزيفه الّذي سكت عن قصوره في التمييز وعاب ما اعتقده زائفاً خشية أن يعاب عقله.
وأمّا الغفلة لديه فهي طبع لزم على الإنسان تجنّبه لوخامة عواقبه. فهي تُعقب سوء التقدير. لقد خلص إلى هذه الأقوال بعد تفكير متواصل أورثه السقم والهزال والرغبة في المعرفة. إلّا أنّ ما تبيّن له أرّقه وأفقده هذه الرغبة. لم يعد ينشد المعرفة لما ظهر له. فثبت لديه أنّ الحقيقة صنف من صنوف الوهم وأنّ الوهم صنف من أصناف الحقيقة. فلا تستقيم الحياة إلّا بهما متداخلين. والظنّ دون اليقين هو من يغلّب أحدهما على الآخر. ما كاد ينتهي إلى هذا حتّى غلبه النوم.