كان اطلاعي على «السفير» لأول مرة في إجازة صيفية دراسية جامعية العام 1974، أي بعد شهور قليلة من صدورها في ربيع نفس العام، وكانت تُباع حينذاك في مكتبة العليوات خلف مبنى البريد القديم المقابل لباب البحرين جنوباً قبل انتقالها إلى السلمانية، ومنذ ذلك العام صرتُ مدمناً على شرائها، وكُنت أحرص على الذهاب خصيصاً من منطقة سكني إلى سوق المنامة بباص النقل العام (غير المُكيّف حينذاك) لعلي أظفر بنسخة منها لمحدودية النسخ الواردة، ولطالما عدتُ أدراجي بخفي حنين مُحبطاً حال نفادها. أما آخر عدد ورقي اطلعت عليه فكان يوم عودتي إلى الوطن من بيروت منتصف الشهر الماضي، وكان من حسن حظ قراء «السفير» في البحرين أن الأخيرة كانت من الدول العربية القليلة التي كانت تدخلها وإن بشكل متقطّع.
وفي أواخر مايو/ أيار من العام 2000، وتحت تأثير الفرحة العارمة التي اجتاحتني بأخبار انتصار المقاومة اللبنانية على قوات الاحتلال الاسرائيلية، وارغامها على الانسحاب الكامل والمُذل من جنوب لبنان بعد احتلال دام 22 عاماً، داهمتني فكرة الاتصال تلفونياً بأي شخصية وطنية لبنانية لأعبّر له عن مشاعر الغبطة التي انتابتني، وأشارك الشعب اللبناني أفراحه بانتصاره العظيم المُظفر، ومن بين شخصيات كثيرة طافت بمخيلتي، رسوت على رئيس تحرير «السفير» طلال سلمان؛ لسهولة الحصول على رقمه من صحيفته، فاتصلت به ورحّب بي وعرض عليّ، بعد تعريفي له، كتابة مقال أسبوعي أخص به السفير «لندرة الكتّاب الخليجيين فيها» على حد تعبيره، فوافقت وانتظمت في الكتابة فيها لمدة سنتين أو ثلاث؛ لكن تعذر عليّ بعدئذ مواصلة هذا الالتزام؛ نظراً لالتزاماتي الكتابية الصحافية المتعددة الأخرى.
وعودة للمحن والمخاطر الجمة التي واجهتها السفير في سني الحرب الأهلية التي أشرنا إليها على نحو عابر في مقالنا السابق، فإنه إذا كانت هذه الحرب عُرفت بأعمال الاغتيالات والإعدامات للأبرياء على الهُوية الطائفية، فما بالنا بحال صحيفة لاتخفي انحيازها لأحد الطرفين الرئيسيين المتحاربين ألا هو «اليسار» ممثلاً في القوات الوطنية اللبنانية- الفلسطينية المشتركة، والتي غالبيتها من المسلمين، في مواجهة «اليمين» ممثلاً في قوات الكتائب والاحرار وحُلفائهما، والتي كلها من المسيحيين. وفي هذا الصدد، واجهت السفير محنتين كُبريين: الأولى تمثلت في محاولات الاغتيال والنسف التي تعرض لها رئيسها ومحرروها، فضلاً عن مقرها، والثانية تمثلت في أشكال الرقابة والتعطيل التي واجهتها، وفيما يتعلق بالمحنة الأولى فلعل أشدها هولاً تعرض رئيس التحرير غير مرة لمحاولة الاغتيال أخطرها العام 1984 التي نجا منها بأعجوبة؛ لكنه اُصيب بجروح بليغة في وجهه، وقبلها تفجير المطبعة 1980 على أيدي مخابرات «فتح» والذي كاد يودي بحياة العاملين في الصحيفة، وإطلاق صواريخ على شقته السكنية، واقتحام قوات سورية مقر جريدته 1976 غداة دخول الجيش السوري بيروت لدعم القوات اليمينية- المسيحية، وبقوا في المقر طوال 19 يوماً بعد اعتقال عدد من محرريها. أما فيما يتعلق بالمحنة الثانية ألا هي الرقابة والتعطيل، بما في ذلك الأحكام القضائية بالتغريم، وحبك الدسائس لدى المعلنين لحملهم على عدم الإعلانات فيها بغية خنقها مالياً، فقد صدرت لها أعداد ذات صفحات أو مساحات لمقالات بيضاء كعلامة على حذفها من قِبل الرقابة، كما عُطلت ثلاثة أيام لاتهامها الضابط في الجيش اللبناني العميل للاحتلال الاسرائيلي سعد حداد بالخيانة، ومُنعت من دخول المناطق المسيحية الواقعة تحت هيمنة ميليشيات التحالف اليميني.
وعلى رغم كل هذه المحن والمخاطر التي واجهتها «السفير» خلال الحرب، فإنها تمكنت ليس من الصمود في مواجهتها فحسب؛ بل وأن تبرز أكثر للصحافة اللبنانية شهرةً وخبرةً، سواءً في الانتشار أم في مستوى الاحتراف الفني المهني. كما تمكنت أيضاً من استقطاب نخبة عريضة من أقلام كبار الكتّاب اللبنانيين أمثال: حازم صاغية، وباسم السبع، وسعد محيو، وجورج ناصيف، وبلال الحسن، وجوزف سماحة، ومحمد مشموشي، وفواز طرابلسي، وجهاد الزين، ونهلة الشهّال، ومنح الصلح، وهاني فحص، وحسام عيتاني، وسليم الحص، ووجيه كوثراني، وغيرهم لا تحضرني الآن أسماؤهم. وكانت صفحاتها الثقافية من أرقى الصفحات الثقافية في الصحافة العربية، إذ تولى رئاسة القسم الثقافي فيها أسماء كبيرة مثل: الناقد السينمائي الكبير إبراهيم العريس، وحازم صاغية، ومحمد علي فرحات، وإلياس خوري، والمسرحي السوري الكبير سعد الله ونوس، وعباس بيضون، وبيار أبي صعب. والحق أنه ما كان لصفحاتها الثقافية أن تحظى بشعبية كبيرة لولا أن رئيس تحريرها نفسه كان واعياً وعياً معمقاً بأهمية الصفحة الثقافية، وبمستوى راق لأي صحيفة تحترم نفسها وقراءها، بل هو نفسه كان عاشقاً للأدب والفنون والنقد، حتى كان له عمود ثقافي في «الملحق الثقافي» الأسبوعي بعنوان «هوامش» مُذيّل باسم «نسمة» يحظى بإعجاب المثقفين والأدباء والفنانين.
فليس غريباً، والحال كذلك، أن تصف الفنانة المسرحية نضال الأشقر قلمه، بأنه يدخل القلب والوجدان، إن في الفن أو الحُب أو السياسة. وتسامى سلمان أيضاً فوق مناخ الطائفية السائد في زمن الحرب، ببذل أقصى الجهود الممكنة لتغطية الأنشطة الثقافية حتى في المناطق المسيحية الواقعة تحت سيطرة الكتائب والقوات اللبنانية. كما استضافت «السفير» على صفحاتها قمماً ثقافية وفكرية عربية متعددة الاتجاهات أمثال: أدونيس، وعزمي بشارة، وفهمي هويدي، وياسين الحافظ، وميشيل كامل، وميشيل كيلو، وجورج طرابيشي، وعدنان مدانات وغيرهم. وأضحى معروفاً ان كثرة من الكفاءات الصحافية التي استعانت بهم الصحف الخليجية في مرحلة التأسيس أو العمل الدائم فيها، سواء التي تصدر من لندن أم من الخليج، كانوا من كتّاب ومحرري «السفير» التي نمّت وصقلت مواهبهم منذ كانوا شباباً يافعين فيها غداة صدورها.
في مانشيت عنوانها الرئيسي على الصفحة الأولى من عددها الأخير الوداعي عند شفق انتهاء العام 2016، كتبت «السفير»: «الوطن... بلا السفير»، ولما كان شعار السفير منذ صدور عددها الأول: «جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان»، فكم كان جميلاً لو جاء العنوان: «لبنان والوطن العربي بلا السفير»، حيث دخلنا نفق عصر لبناني وعربي يبدو طويلاً، ما يصعب معه التنبؤ بأن تعود «السفير» أو يحل محلها من يسد فراغها المُوحش، على الساحات الإعلامية والسياسية والثقافية لبنانياً وعربياً.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5246 - الإثنين 16 يناير 2017م الموافق 18 ربيع الثاني 1438هـ