كان عملاق الصحافة البريطاني اللورد نورثكليف (ت 1922) واحداً من الذين تُنسب إليهم مدرسة «تقصي الخبر المُثير وإبرازه» الصحافية، بغض النظر عن قيمته وأهميته، وبمقتضى هذه المدرسة، فإن الكلب إذا عض رجلاً فهذا ليس خبراً، فالمطلوب من الصحافي أن يأتي بخبر عن رجلٍ عض كلباً، ويمكننا على القياس، للتوضيح لا للإثارة، القول: أن نقرأ خبراً عن إعلان صحيفة عربية توقفها فهذا لم يُعد خبراً حيث بات روتينيّاً متكرراً كثيراً، لكن أن نقرأ خبراً مع غروب العام الماضي بإعلان مالك «السفير» اللبنانية ورئيس تحريرها طلال سلمان بتوقفها عن الصدور، فذلك الخبر الصادم الذي لم يستطع أحد تجاهله إعلاميّاً في عالمنا العربي، ومازالت ردود الفعل بشأنه تتوالى إلى يومنا هذا في الصحف العربية، لعل آخرها مقال لحازم صاغية أحد كتّابها السابقين على صفحة كاملة من «الحياة» التي وضعت إشارة عنه في صفحتها الأولى (عدد 11 يناير/ كانون الثاني 2017).
والحال أن قصة نجاح «السفير»، كصحيفة وطنية قومية ديمقراطية لبنانية، لم تكن مجرد قصة صحيفة حالفها الحظ مصادفةً، لتصبح واحدةً من أهم الصحف العربية قاطبةً، بل ماكانت لتحقق ذلك أصلاً لولا أن وراءها قصة كفاح أسطورية مُعمَّدةً بالدم والأعصاب والألم، استطاعت من خلالها أن تثبت بجدارة استقلاليتها طوال 42 عاماً من عمرها، بل وأن تكوّن لها مدرسة مُميزة، يمكن أن نطلق عليها مدرسة الكفاح والتحدي في الإصرار على مبدئيتها ونهجها مهما كلفها ذلك من ثمن وتضحيات، في ظل أوضاع سياسية ومالية وأمنية دائمة الاضطراب في بلد كلبنان، كان ومازال قدره أن يكون في قلب العواصف السياسية العربية قبل عواصفه المحلية.
ولدت «السفير» عند مفصل تاريخي حسّاس من أواسط السبعينيات شكّل بدايات اُفول مرحلة، وتوقفت عن الصدور مع بدايات شروق مرحلة تاريخية جديدة أخرى مختلفة تماماً. كانت «الأهرام» المصرية قبل ولادة «السفير» أشهر، صحيفة قومية تحظى برواج محلي وعربي كاسح بفضل إدارة محمد حسنين هيكل، ومقاله الأسبوعي طوال عهد جمال عبدالناصر بما يملكه من زعامة شعبية محلية وعربية جارفة، واستمرت كذلك إلى حد ما بعد رحيله في السنوات الأولى من عهد خلفه أنور السادات مطلع سبعينيات القرن الماضي؛ لكن هيكل سرعان ما اختلف معه، بُعيد حرب أكتوبر/ تشرين الأول، وترك الصحيفة في فبراير/ شباط 1974 لتفقد بعدئذٍ وزنها وشعبيتها العربية، وبعد أقل من شهرين، وتحديداً في 26 مارس/ آذار صدرت «السفير» وكأنها جاءت لتسد الفراغ الذي تركته «الأهرام» تحت قيادة هيكل، لكن ما يميزها عن الأخيرة أنها على رغم هُويتها الناصرية لا تتبع نظاماً سياسيّاً ولاحزباً قائماً، حيث اختطت لنفسها نهجاً مستقلاً لم تستطع كل الصحافة القومية العربية على امتداد العالم العربي مُجاراتها فيه، وكانت منبراً صادقاً لكل التيارات الوطنية والقومية واليسارية، تسامت فيه فوق العصبية الناصرية، وكل العصبيات الحزبية والأيديولوجية الضيقة التي عُرفت بها الصحافة القومية واليسارية من دون استثناء. وإذا كان مقال هيكل في الأهرام من أسباب رواجها، فقد كان في المقابل مقال سلمان مقروءاً، ويحظى بشعبية لدى قراء السفير، ولا يمكن أن تكون لصحيفة شخصيتها المميزة من دون مقال رئيس التحرير.
علاوةً على ذلك فقد فتحت السفير صفحاتها لبيانات حركات وأحزاب المعارضة الوطنية والإسلامية المعتدلة في البلدان العربية، والتي كانت تعمل تحت الأرض، وكذلك لأقلام قياداتها وكوادرها المطاردين، غير عابئة بما ستواجهه من خسارة مادية ومعنوية بحظر دخولها في معظم هذه الأقطار حظراً دائماً أو مُتقطعاً، مُجسدةً شعارها المعروف «صوتُ الذين لا صوت لهم» وقد كان شعارها الآخر «صحيفة لبنان في الوطن العربي وصحيفة الوطن العربي في لبنان».
قصة مسيرة طلال سلمان مع الصحافة هي قصة مُشوّقة، تستحق أن تُدّرس بحق في كليات الإعلام بالدول العربية؛ لأنها قصة كفاح وكدح رجل عصامي، بدأ حياته الصحافية من الصفر منذ مطلع الستينيات، وتدرج في مختلف الوظائف الصحافية بدءاً من أسفل هرم المؤسسة الصحافية حتى قمتها، فبدأ كمصحح لغوي في صحيفة «النضال» مقابل أجر زهيد للغاية، فيما هو يعاني من شظف المعيشة والعوز، ثم انتقل إلى «الشرق» كمخبر صحافي بلا مقابل، ثم صاحب زاوية في «بريد القراء»، وسافر إلى الكويت 1962 لتأسيس مجلة «دنيا العروبة» مع عبدالعزيز المساعيد صاحب صحيفة «الرأي العام»، وأُجبر على العودة إلى بيروت وليلتحق بعدئذٍ بمجلة «الصياد» ويُعيّنه صاحبها سعيد فريحة مديراً للتحرير، ولكن عمليّاً كان شبه مدير تحرير نفسه، فقد سخّره لتحرير معظم موادها، فاضطر لتركها بعدما استنزفت صحته وطاقته استنزافاً، لينتقل بعدها إلى «الحوادث»، ثم ليعود ثانيةً للصياد في 1969 ولتكون هذه العودة المرحلة الحاسمة في تحول مجرى حياته الصحافية نحو الصعود إلى القمة بتأسيس «السفير»، وذلك بفضل ما أتاحته له فرص التجوال كمراسل في الدول العربية لبناء شبكة علاقات متميزة مع الكثير من الشخصيات القيادية الرسمية وغير الرسمية العربية، ومنها على وجه الخصوص ليبيا التي ساعدته مطلع السبعينيات في الحصول على قرض من بنك ليبي في بيروت، لتنفيذ حُلمه بتأسيس صحيفته، وهكذا جاءت ولادة السفير في مارس 1974 قبل عام فقط من انفجار الحرب الأهلية في ربيع 1975 حيث استمرت عقداً ونصف العقد (1975- 1990). وعلى رغم ما عانته طوال هذه الحرب من مآسٍ ومحن شتى، كتعدد محاولات اغتيال مؤسسها ونسف مقرها، إلا أن ذلك كله لم يفت في عضده، هو الذي اجترح معجزة صدورها وبيروت غاطسة في بحر من الظلام، تحت حصار وقذائف الاحتلال الاسرائيلي صيف 1982، في حين وخلال ربع قرن ونيف (1990 - 2016) من مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الاهلية، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وأُفول اليسار العربي والمتزامنة مع عصر الانترنت، وارتفاع أسعار الورق، وتراجع الاعلانات وعوائد التوزيع، عجز عن التجديف في وجه تيار الزمن الجديد الجارف، وخارت قواه ليعلن أخيراً استسلامه في بطولة المراهنة الأسطورية على بقائها.
ومثلما كان طلال سلمان بارعاً ومُوفقاً في اختيار شعارات مولد عددها الأول، لتظل بعدئذ كأيقونات مُقدسة مُثبتة في كل أعدادها، فقد كان بارعاً أيضاً في اختيار رسم كاريكاتيري في عددها الأخير، مُعبراً عن غروبها المؤلم الفاجع للفنان الفلسطيني الكبير الراحل ناجي العلي، الذي ارتبطت بدايات شهرته بالسفير، والرسم الذي جعله يتوسط أعلى الصفحة الأولى عبارة عن قلم مكسور وحمامة دامعة وشخصية حنظلة بجوار افتتاحية الوداع في العدد الأخير.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5243 - الجمعة 13 يناير 2017م الموافق 15 ربيع الثاني 1438هـ