جاء الاتصال الذي لم أتوقّعه يبلغني بالدعوة لأكون ضيفاً على مؤتمر «فتح» المنعقد في مدينة رام الله. تسارع تفكيري بشأن مدى قدرتي على الحضور، وتلبية دعوة جاءت من مكتب الرئيس أبو مازن ومن القائد الفتحاوي عباس زكي. دعوة إلى فلسطين التي تسكنها الأحلام والأحزان، وتقع في جغرافيا هي بين الألم والأمل، وبين الظلم والحق والعودة واللجوء يصعب أن ترد.
حزمت الحقائب وركبت الطائرة إلى الأردن، ومن مطارها اتجهت إلى الحدود الأردنية- الفلسطينية حيث جسر الملك حسين. مررت فوق نهر الأردن عند المنطقة الفاصلة، وقبل الوصول إلى نقاط التفتيش الإسرائيلية، عدت بذاكرتي إلى بدايات وعيي السياسي وأنا في المدرسة عام 1968 عندما أعجبت بالفدائيين من «فتح» ممن كانوا يعبرون هذا النهر من أجل العودة إلى الأرض. مات منهم المئات بعد حرب 1967 على ضفاف هذا النهر وأطرافه.
تبددت الذكريات عندما وجدت نفسي أمام حاجز إسرائيلي مكون من نقطة تفتيش مدججة بالأسلحة. «أوراقك». قال الجندي للسائق. قدّمت أوراقي، لم يقل الجندي شيئاً، لم يبتسم ولم يعبس، فهو يعاني من ملل التفتيش والبحث عن شيء لا يعرفه بين ألوف القادمين. سارت المركبة قليلاً، وإذا بي أمام مركز الجوازات الإسرائيلي الذي يفصل الأردن عن الضفة الغربية المحتلة. في المركز الحدودي ضباط إسرائيليون وقوات أمن وعسكريون واستخبارات. في هذا المكان تفتيش دقيق يتميّز بالحذر. أخرجت الوثيقة التي أرسلتها لي السلطة الفلسطينية وعبرت بسلام.
بمجرد تجاوزي مركز الجوازات الإسرائيلي وجدت نفسي في الضفة الغربية، أي في مناطق السلطة الفلسطينية. في ذلك المربع عند مدخل الضفة الغربية بعد عبور الأردن والمراكز الإسرائيلية الحدودية سيارات للتاكسي العربي والفلسطيني الآتية من كل مكان. هناك حركة واضحة للقادمين إلى فلسطين كما للمغادرين. هذه المنطقة تكاد تكون نقطة العبور الوحيدة لمن يأتي ويذهب، لهذا فهي مكتظة بالناس بينما مجرد وجودها بهذا الشكل تعبير عن مأساتهم.
الزائر مثلي يدخل فلسطين مدجّجاً بحصانة نفسية عن الحقوق الفلسطينية والتاريخ والمستقبل. هذه الأرض تتنشق عروبةً، ففي كل مكان قصة حرب وحالة تهجير ونفي ومعاناة لا تتوقف. في كل شارع ترى أبعاد الصراع الملعون المستمر منذ أكثر من قرن على المكان والحقوق. عند المرور بفلسطين أنت ترى الشيء ونقيضه، ترى أريحا العربية وتشاهد المستعمرة اليهودية قربها، ترى رام الله الفلسطينية وتكاد تلمس المستعمرة التي تقابلها. كل مستوطنة من بين مئات المستوطنات المبنية والمتشعبة في الضفة الغربية وحول القدس تذكّر الفلسطينيين بأن الصهيونية مشروع استيطان وتوسع. تسير المركبة قليلاً فترى الأسوار التي تحيط بالضفة الغربية والهادفة لمحاصرة الناس وتعظيم آلامهم وقتل أحلامهم. في كل مكان أنت في حضرة الاحتلال الذي يحلم باختفاء الفلسطينيين، لكنه في الوقت نفسه يتساءل عن سر بقائهم في حلبة المقاومة إلى يومنا هذا.
في جلسات تمهيدية قبل مؤتمر «فتح» لضيوف المؤتمر ولأعضاء من الحركة، التقيت أسرى تحرّروا منذ أعوام في صفقات تبادل بعد 34 عاماً في السجن، والتقيت مناضلين سابقين من العهد القديم، واختلطت بشبان وشابات ممن يحلمون باستكمال مسيرتهم نحو دولة مستقلة وحقوق شاملة وثابتة. في «فتح» أجيال مختلفة، فالقيادة التاريخية المتبقية بقيادة رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن وصلت إلى عمر متقدم، والقيادات الوسيطة في مرحلة انتقال، لكن التجديد لن يكون ممكناً من دون الجيل الجديد في كل المواقع، بل سيكون صعباً من دون الانفتاح على الأفكار المؤيدة والناقدة، ففي كل مكان حول المؤتمر تسمع الرأي والرأي الآخر، ودائماً ما يكون الرأي الآخر هو الرأي الذي يرى نصف الكوب الفارغ. إن أصعب التحديات تأتي من النصف الفارغ.
لقد انتقلت حركة «فتح» من حركة تحرر وكفاح مسلح في لبنان والمنافي، إلى سلطة فلسطينية في أرض ما زالت محتلة، وهذا وضعها في عين العاصفة حيث الاستيطان والتوسع والمصادرة والتهجير والعنصرية. بل يمكن القول بأن طبيعة الاحتلال الإسرائيلي هي أكبر تحدٍّ لمشروع «فتح» وقوتها بل ووحدتها.
في مؤتمرها الذي بدأ الثلثاء الموافق 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، بدت «فتح» حركة قديمة وتاريخية، تسعى للخروج من وضع بالغ الصعوبة. فهي سلطة سياسية وأمنية وحركة تحرّر في الوقت نفسه، وهي دولةٌ لكنها تحت الاحتلال وغير مكتملة البنيان والأساس، وقلما تمتلك كدولة تحت الاحتلال ما يساعدها على تجاوز حالة البطالة، وتدهور حياة الناس في القرى والمدن والمخيمات في عموم الضفة الغربية. العودة إلى حركة التحرر والعمل المدني والثوري والنقابي والسياسي؛ بل وكل ما يصب في الصمود الوطني والاقتصادي على الأرض هو الأهم في المرحلة المقبلة. لهذا سيكون السؤال في المقبل من الأيام مرتبطاً بمدى قدرة «فتح» على قيادة هذا البعد الوطني المدجج بالتحديات الوطنية والسياسية والاقتصادية. إن حضور حركة «حماس» وحضور «الجهاد الاسلامي» للمؤتمر علامة فارقة، والكلمة التي ألقيت نيابةً عن خالد مشعل قائد «حماس» أعطت انطباعاً بأن وحدة الساحة الفلسطينية ممكنة التحقيق.
إن مؤتمر «فتح» الذي سعت أطراف دولية وعربية لمنع حدوثه انعقد في ظل الآمال المتجددة. لكن مجرد تدخل أطراف دولية وإقليمية في سعي لمنع الانعقاد هو دليل على بعد آخر للتحدي الذي تواجهه الحركة، فنحن اليوم في عالم عربي منقسم على نفسه بشأن كل شيء، وهذا الانقسام سينعكس في الحالة الفلسطينية. لهذا فالتداخل العربي في شكله الراهن أو المقبل سيضيف إلى هذا الانقسام. هذه تحديات للمرحلة القريبة المقبلة ستواجهها حركة «فتح»، لكنها تحديات الوضع الفلسطيني برمته.
في مؤتمر «فتح» ألقيت كلمات تضامن من وفود عالمية وعربية، فعدد الوفود الآتية من العالم سواءً أكانت فلسطينية أم عربية وعالمية، عبّر عن عمق المسألة الفلسطينية. جسدت كلمة عبدالله النيباري النائب الكويتي السابق أعمق مشاعر التضامن القادمة من الكويت تجاه فلسطين. لقد تركت كلماته المتدفقة أبلغ الأثر في مستمعيه من حركة «فتح» والوفود. إن كثرة الكلمات وعدد الوفود الكبير أديا إلى تأجيل كلمة الرئيس أبو مازن.
كم يعتني الفلسطينيون بمرويتهم وبتاريخهم وقصتهم. هذا ما وجدته في متحف الشهيد ياسر عرفات وفي متحف محمود درويش. في المتحفين صورة الشعب المحاصر من الجهات الأربع، وهو الشعب الذي يواجه الحركة الصهيونية بكل مغالاتها وعنفها وقدراتها، بينما يستند إلى عالمٍ عربي يعاني من التفتت والاستبداد. صور النكبة، صور محطات الكرامة من الأردن وبيروت والجنوب وصولاً إلى محطات نضال وانتفاضات داخل مناطق الضفة الغربية، تجعل المروية الفلسطينية من أكثر المرويات عمقاً وإنسانية. إن مجرد العبور أمام صور القادة الذين تصدّوا للصهيونية أو الذين تمت تصفيتهم من جانب إسرائيل تعبيرٌ عن مدى عمق التجربة الفلسطينية النضالية.
في الضفة الغربية تلتقي مجموعاتٍ من الشبان ممن يعملون على الذاكرة، بعضهم مهتم بشخصيات تاريخية محددة يعاد اكتشافها اليوم، مثل أبو أياد القائد الثوري، وأبو جهاد الأب الروحي للكفاح المسلح. الفلسطينيون في هذا يستنهضون طاقتهم على النضال من خلال استحضار النضال السابق ورواياته.
كل ما يقع في فلسطين يشير إلى الوجود. ففلسطين هي المكان الوحيد الذي يعود إليه الأفراد من مناطق مختلفة من العالم بهدف المساهمة في الصمود وتثبيت الحقوق. في رام الله وفي الأرض المحتلة تجد فلسطينيين من مخيمات لبنان وسورية وآخرين من مناطق مختلفة وقد عادوا للإستقرار على الأرض التاريخية حيث مركز الصراع. إحدى الفلسطينيات قالت لي وهي لا تتجاوز 30 سنة: «كم تعني لي قصة العودة من مخيمات لبنان إلى رام الله، أنا هنا في قلب الوطن، هنا تخلصت من صفة اللجوء وحالة الغربة. هنا بداية استعادتي لحريتي».
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 5242 - الخميس 12 يناير 2017م الموافق 14 ربيع الثاني 1438هـ