العدد 524 - الأربعاء 11 فبراير 2004م الموافق 19 ذي الحجة 1424هـ

المتباكون على العراق... خطاب التخوين ممل ويدين أصحابه

تمام أبو صافي comments [at] alwasatnews.com

عندما أرى المتباكين على النظام العراقي السابق من الذين يصرون على أن يكونوا عراقيين أكثر من العراقيين أنفسهم، أسأل إذا ما كان هؤلاء لم يتعلموا شيئا؟ والاهم أنهم يصرون على المكابرة والتبجح وكيل الاتهامات لكل من يخالفهم الرأي، يريدون أن يقولوا للعالم وحدنا نملك مشاعر القومية والانتماء للأمة العربية، ومن اختلفوا معنا فهم خونة وعملاء ومأجورون.

يحضرني السيناريو الذي تكرر طيلة سنوات طويلة من عمر بعض الأنظمة العربية حين كانت هذه الأنظمة تسرق وتغتني من قوت شعوبها وخيرات أرضها وتملأ بها جيوب عناصر حزبها الواحد الحاكم والمحسوبين عليه. وإذا ضاق مواطنوه ذرعا من وطأة الفقر الذي يرضخون تحته كانت تهمة الخيانة جاهزة، فتوفير المعتقل وأدوات التعذيب أسهل عليها من توفير رغيف الخبز، والانفاق على جهاز بوليسي تديره مجموعة من عصابات امنية أسهل من الإنفاق على محطة توليد كهرباء في مدينة ما في بلدانهم.

هذه قصة أنظمة الحزب الواحد التي لا تعترف بالرأي الآخر مهما كان بسيطا او مسالما أو صادرا عن نية حسنة. فجميع المخالفين وأصحاب الرأي الآخر خونة وعملاء لقائمة طويلة من الأعداء الذين يمكن صنعهم في أي وقت.

هؤلاء المتباكون مثل أنظمة الحزب الواحد بالضبط، فهم لا يقبلون بأي رأي آخر ولا اختلاف في وجهة النظر بشأن أية قضية مهما صغرت أو كبرت. وهم الذين يملكون الحقيقة المطلقة وهم الذين يقدمون للأمة وصفات جاهزة من الحلول التي لا تقبل المناقشة ولا الاعتراض ولا حتى الاتفاق في نقطة والاختلاف في نقاط أخرى.

هم حاضرون دوما في المنتديات وعلى شاشات التلفزيون وفي الإذاعات والصحف وليس لديهم سوى تهم التخوين لكل رأي مغاير واتهامات بالعمالة لكل من يقدم حججا او رأيا مغايرا لأرائهم، ولعناتهم لا تستثني حتى أولئك الذين ينطلقون من منطلقاتهم ومشاعرهم القومية والوطنية نفسها، إذا قدم هولاء وجهة نظر تختلف عن وجهة نظرهم أو توصلوا الى استنتاجات تخالف استنتاجاتهم. لهذا فهم لا يملكون غير أدب التخوين ومفرداته والذي استهلكته أنظمة الحزب الواحد ومثقفو الحزب الواحد ليعود هذا المنطق إلى الحياة الآن على يد المتباكين على النظام السابق في العراق.

ثمة أسئلة كثيرة تدور في ذهني عندما أشاهد الذين اخذوا على عاتقهم المزايدة على العراقيين والتحدث نيابة عنهم وكأن العراقيين غير معنيين بمصير وطنهم ومستقبله. هل هؤلاء يحبون العراق حقا؟ أم كانوا يريدون أن يلتصقوا ببطولات لم تصنع لهم أصلا؟ أم أن الهزيمة تلو الهزيمة تجعلهم يمجدون من يأتي إليهم معلنا نيته تحرير القدس حتى لو كان إعلانه من باب الدعاية التي اعتمد عليها الكثيرون وبنوا لأنفسهم مجدا زائفا على حساب القضية الفلسطينية؟ أم أن عهد الامتيازات الحزبية التي كانوا ينعمون بها أيام النظام السابق هي التي تدفعهم للتباكي بدافع أناني وليس حبا في العراق؟

وأذكر هنا حوارا جرى قبل شهور من الآن عندما قمت بإجراء مقابلة صحافية مع مجموعة من العراقيين للوقوف على أوضاع العراقيين بعد سقوط النظام. كان معظمهم يجزمون بضرورة خروج الاحتلال الأميركي من ديارهم لكنهم في الوقت نفسه رفضوا ان يعود صدام او عهده إلى حكم العراق، احدهم همس لي «إلى متى سيبجل بعض العرب صدام ويصنعون منه بطلا علينا؟ دفعنا الكثير من دماء أبناءنا وهم يتفرجون ويكيلون المديح من دون تفكير. لا نريد الاحتلال الاميركي لكننا نكره صدام ونظامه». كلمات ذلك العراقي البسيط الذي ينتمي للعراق وليس لحزب قد يسقط بأيام كما حدث، صوت يستحق الاستماع اليه واحترامه. لقد اوصل إلي ما يريد قوله عن وطنه بصدق من دون ان يعطيني درسا في القومية العربية والتبجح الملل.

ثمة فرق كبير بين من تكلم عن وطنه بصدق نابع من مشاعر عفوية تجاه ما حدث لبلده وبين الذين يصرون على ان يكونوا أبطالا في وقت ضائع معتمدين على قدراتهم الصوتية بالصراخ والغضب وكيل الاتهامات لكل من يختلف معهم.

أليس من الحماقة أن أزايد على شعب قمع صوته سنوات وتوالت على حكمه أجهزة بوليسية قمعية؟ أليس من المكابرة أن نصر على أن نكون عراقيين أكثر منهم؟

أضف الى ذلك ان كل ما يجري في العراق منذ سقوط النظام السابق هو محاولة لبناء مستقبل جديد والاحتلال موجود كحقيقة بغيضة، لكن لا احد يملك الحق في أن يفرض على العراقيين السبيل الذي يجب أن يسلكوه لبناء مستقبل جديد لهم ولا احد يملك الحق في تخوين ملايين من العراقيين أو تمجيد ملايين أخرى لأن هذا ببساطة منطق الحرب الأهلية. الأهم من هذا هو أن على هؤلاء المنظرين والمتباكين أن يسألوا أنفسهم لماذا وصل العراق إلى الحضيض واحتل من قبل الأميركيين بحثا عن المسئولية الذاتية أو عن مسئولية نظام قاد شعبه طيلة 35 عاما؟ وإذا كان الاحتلال حقيقة بغيضة فهل هي الحقيقة الوحيدة التي تعايش معها العراقيون طيلة هذه الأعوام الـ 35؟ جاء الاحتلال ليتوج حقائق اكثر بغضا كانت تحكم حياة العراقيين لأكثر من ثلاثة عقود.

والأكثر من هذا، ان هذه المجموعة من المتباكين أصبحوا الآن يحاولون ان يلتصقوا بالمقاومة العراقية أو ان ينصبوا أنفسهم كأنهم الناطق الرسمي لها وكأن المقاومة العراقية تقاوم لأجل إرجاع صدام او نظامة. ألا يدرك هؤلاء انه بين نظام صدام حسين والاحتلال الأميركي للعراق أناس يحبون العراق لأنه وطنهم وحقيقة مقاومتهم نابعة من حبهم لأرضهم وصونا لها لكنهم بالتأكيد يرفضون ان تلتصق مقاومتهم بالنظام العراقي السابق، والأكثر أنهم يرفضون ان يصنفوا على انهم مجرد فلول من النظام السابق. بالتأكيد ان مقاومتهم لها أسبابها المنطقية البعيدة تماما عن هدف عودة النظام السابق. فالاحتلال أمر بغيض لا يحتمل والمقاومة واجب مشروع أمام أي احتلال لكن ان نقزم هذه المقاومة ونجعلها مرتبطة بالنظام السابق فهذه إهانة لأصحاب المقاومة نفسها.

هؤلاء المتباكون لا يعرفون شيئا اسمه المراجعة أو النقد الذاتي حتى لو تعلق الأمر بمصير شعب وبلد بأكمله وبتاريخه وحاضره ومستقبله، لذلك فإن كل خطابهم فج وممل ولا ينتهي إلى شيء إلا الى العدم لأنه مجرد عبارات مستهلكة عن القومية والوطنية وكأن هذا ملك حصري لهم لا يشاركهم أحد فيه

العدد 524 - الأربعاء 11 فبراير 2004م الموافق 19 ذي الحجة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً