تبدو المنطقة الممتدّة من اوروبا الغربيّة، مرورا بالمغرب العربي، وحتى أعالي جبال افغانستان، كأنها منطقة جالسة على بركان، فيها الارهاب، واسلحة الدمار الشامل، وكذلك فيها اهداف اميركية استراتيجيّة بعيدة المدى. فماذا عن كل هذا؟
اوروبا: عندما نقول اوروبا، فإننا نعني كل اوروبا، وليس الشرقية او الغربية. فبعد السقوط السوفياتي، فُتحت الممرات الاستراتيجيّة بين غربي وشرقي اوروبا بشكل كامل. وبما ان اميركا كانت جاهزة عسكريا واقتصاديا في اوروبا الغربية، في ظل انكسار سوفياتي شامل فلابد ان تستغلّ اميركا نجاح استراتيجيتها من خلال إحتواء الدب الروسي. وبما انها كانت، من استثمر ودفع الكثير لحماية اوروبا تاركة للقارة العجوز امكان الازدهار الاقتصادي، فإنه من الطبيعي ان تقود اميركا في مرحلة ما بعد السقوط السوفياتي عمليّة استغلال الانتصار. وهنا يقوم جوهر المشكلة بين اوروبا واميركا. فأوروبا وعلى رأسها المانيا وفرنسا، تريد الاستفادة من الحماية الاميركية خلال الاحتواء للسوفيات. ولكنها تريد أن يستغل النجاح ضد السوفيات بالتساوي مع اميركا، وحتى من دون الرأي الاميركي. كيف تبدو الصورة الاوروبيّة؟
تريد أميركا توسيع الناتو ونقل مركز ثقله أكثر إلى شرقي اوروبا. تمانع المانيا وفرنسا هذه العملية، فتعمد إلى التعاون مع انجلترا لبناء قوّة عسكريّة مستقلّة عن الناتو. وبسبب توسّع الناتو، تبدو روسيا قلقة معتبرة ان اميركا تريد استرداد الماضي عبر احتواء جديد لكنه اقسى واخطر على امن روسيا، حتى لو طمأن كولن باول حديثا القيادة الروسية بشأن النوايا الاميركية.
تعتبر الولايات المتحدّة حاليا كأنها قارة جغرافيّة، لكنها موحّدة سياسيا واقتصاديّا، وهذا ما يجعل منها القوة الاعظم حاليا. وفي المقابل تبدو اوروبا كأنها قارة على الصعيد الجغرافي، لكنها ليست قارة موحدّة على الصعيد السياسي، حتى ولو كانت اقتصاديا موحدة جزئيا. وقد يعطي هذا الامر اوروبا قوّة اقتصاديّة، لكن من دون القوّة العسكريّة، وذلك بعكس الولايات المتحدة. وهذا هو لبّ الضعف الاوروبي حاليا على صعيد العالمي. فبعد 11 سبتمبر/ ايلول، لا يمكن لأية دولة ان تكون فاعلة سياسيا على الساحة العالميّة، إلا إذا كانت فاعلة عسكريّا. وإن نظرة سريعة على المسرح العالمي، قد تظهر صحّة ما نقوله. حتى أن مستقبل اوروبا، لا يبدو زاهرا في الوقت الحالي. وإن عمليّة توسيع الاتحاد عبر ضمّ المزيد من الدول، سيعقّد حتما مستقبل الوحدة. وإن لبّ الموضوع يدور حول خوف الدول الصغرى من ان تقع تحت هيمنة الدول الاوروبية الكبرى وعلى رأسها فرنسا وألمانيا.
المغرب العربي: لا ينفصل المغرب العربي عن اوروبا، وخصوصا بعد 11 سبتمبر. فمن الجزائر التي لاتزال تعاني من الاقتتال الداخلي، يبدو ان الخرق الاميركي كان قد حصل مع ليبيا، وذلك عندما قرّر الزعيم الليبي التخلّي عن اسلحة الدمار الشامل. وهو، أي الزعيم الليبي، كان قد قرّر فتح كل الملفات المتعلّقة بموضوع الاسلحة. وقد ادخل هذا الامر باكستان في ورطة (ستعالج لاحقا). من ليبيا حتى السودان، تريد اميركا إنهاء موضوع التمرّد في الجنوب لاسباب عدة منها الداخلي الاميركي، ومنها ما هو متعلّق بموضوع الارهاب، وشكل الاستراتيجيّة الاميركية الجديدة في القارة السوداء.
بعد المغرب العربي تأتي مصر. وهي لاتزال تعتبر محورا استراتيجيّا اساسيّا في الفكر الاميركي. لها دور على صعيد القضيّة الفلسطينيّة، لكنها بعيدة عما يجري في العراق وما يرسم له، وهذا فعلا ما يقلقها. لكنها ليست بأفضل حال من الدول العربيّة الباقية. فهي في مأزق اقتصادي كبير وكبير جدا. وهي تعتمد على المساعدات الاميركية بشكل اساسي، وخصوصا بعد تراجع مردود قطاع السياحة بعد 11 سبتمبر. وهي قد تواجه مأزقا خطيرا جدّا آتيا من الجنوب، في حال قرّرت بعض الدول نقض الاتفاقات المعقودة في العشرينات بشأن توزيع مياه النيل. أليس هذا الامر سلاحا في يد كل من اميركا و«إسرائيل» للضغط على مصر، ولابقائها بعيدة عن التأثير في مشكلات القلب العربي؟ نعم بالتأكيد.
تعاني ««إسرائيل» من أزمة هويّة. وهذا ما عبّر عنه فعلا رئيس الكنيست السابق من خلال مقال كتبه في صحيفة «لو موند» الفرنسية تحت عنوان «موت الصهيونيّة». فالعقيدة الصهيونيّة وبحسب المفكرين اليهود، عقيدة كانت قد حقّقت اهدافها، بعد ان أسّست الدولة. وإن ما ساعد في قيام هذه الدولة استنادا إلى العقيدة الصهيونيّة، هو تأثير الفكر الغربي المتعلّق بالمفهوم القومي للدولة (الدولة - الامة). لكن الفكر الغربي نفسه، يطرح حاليا مفهوم الدولة - الامة، وعلاقتها بالاقليات والاثنيات التي تعيش فيها. وبعد ان اصبحت العولمة معمّمة، تراجعت اهمية العرق او الاثنيّة في بناء وإزدهار الدول. هنا تدخل «إسرائيل» في ازمة كبيرة. فهل تريد دولة ديموقراطيّة لكل شعبها، في اثنياته ودياناته ومذاهبه، ام تريد دولة عرقيّة فقط لليهود؟ وقد أدّت هذه الازمة إلى ظهور تيارات فكريّة جديدة في «إسرائيل» أطلق عليها لقب «المؤرخون الجدد»، او «مفكرّو ما بعد الصهيونيّة». وردّا على هذه التيارات، ظهر جناح جديد يدعو إلى الصهيونيّة الجديدة، «نيو - صهيونيّة». لكن الذي يهمنا في هذا الشق، هو مستقبل القضيّة الفلسطينيّة. القضيّة الفلسطينيّة حاليا في مأزق. فها هو شارون يحاول فك الارتباط مع الفلسطينيّن من جهة واحدة تحت حجّة انه لا يوجد شريك في الطرف الآخر. فيعمد إلى تفكيك بعض المستوطنات في قطاع غزّة، مع الاستمرار ببناء مشروع حائط الفصل، لنعود مع هذا المشروع إلى ما كان قد طرحه في الستينات إيغال آلون، والذي يتضمّن إعطاء الفلسطينيّين حوالي 35 في المئة من الضفة، وكل قطاع غزّة، على أن يُربط هذا الكيان بالمملكة الهاشميّة. تراجعت القضيّة الفلسطينيّة في مركز ترتيب المشكلات في المنطقة إلى المركز الثاني. والقضيّة الاولى حاليا في المنطقة هي العراق. فالذي بيده الحل للقضية الفلسطينيّة، هو منهمك الآن في مشروعه في العراق. وهو يعتبر ان الخطر عليه وعلى مشروعه، يأتي اكثر ما يأتي من القضية الفلسطينيّة. وإلا فما معنى تهميش القضية وجعلها قضية ثانويّة، وتهميش زعاماتها ووصفهم بالارهابيين؟
يخرج لبنان حاليا من انتصار تاريخي ثان مع «إسرائيل». فبعد التحرير في العالم 2000، اتى تحرير الاسرى من السجون الاسرائيليّة. وتأتي فرادة هذا الانجاز في ان حزب الله كان المتحدّث والناطق باسم لبنان وكل العرب، لكن الاكيد ان الامر في لبنان يبدو مفتوحا على كل الاحتمالات. فلبنان لا يستطيع السير بالمشروع الاميركي نظرا إلى طبيعة نسيجه الداخلي. كما لا يستطيع الاستمرار في أن يكون راس الحربة في الصراع مع «إسرائيل».
العراق: يبقى العراق المشروع الاميركي بامتياز للرئيس بوش، كذلك الامر لاي رئيس اميركي مستقبلي. ويتركّز الاهتمام الاميركي حاليا في العراق على موضوع نقل السلطة، مع تأمين شرعيّة بقاء القوات الاميركية في ارض الرافدين. فللولايات المتحدة مصالح كبيرة وكبيرة جدا هناك، وهي لن تنسحب في القريب العاجل. لكن القلق يبقى في شكل صورة العراق السياسية في المستقبل، وكيف ستكون؟ وما الذي سينظمّ العلاقة، ويوزّع الحصص بين الافرقاء المكوّنة للشعب العراقي؟ وما هي التسوية التي ستأتي بالكل إلى طاولة الحوار العقلاني لرسم صورة المستقبل؟ كلّها اسئلة صعبة وخطيرة في الوقت نفسه، لكن الاكيد ان الولايات المتحدة تلعب حاليا لعبة الشيعة، وفي الوقت نفسه تلعب على الفروقات، انطلاقا من مبدأ «فرّق تسد»، لكن المؤشر الجديد في العراق، هو قرار رامسفيلد بتعيين قائد عسكري من رتبة جنرال بأربع نجوم للاهتمام بالشأن العراقي. فهل يعني ان هناك عمليات عسكرية في محيط العراق؟ واين ستكون؟ حتى الآن، تسرّب خبر عن باكستان.
لا يبدو ان الوضع بين المملكة العربية السعوديّة والولايات المتحدة بخير. فقد طردت الولايات المتحدة حوالي 16 دبلوماسيا من السفارة السعوديّة في واشنطن. وفي الوقت نفسه، اعطت المملكة عقودا تجاريّة لشركات من روسيا والصين للتنقيب عن الغاز، كرسالة لواشنطن انها لن ترضخ. هذا مع التأكيد ان المملكة بصدد إجراء اصلاحات جذريّة، وملاحقة الارهاب في الوقت نفسه.
إيران: يدور شدّ الحبال في إيران حاليا بين الاصلاحيين والمتشدّدين بشأن صلاحية المرشحين للانتخابات. وقد وصل الوضع إلى حدّ الانفجار. فهل سينفجر؟ قد يندرج الانفجار في الترتيب الاخير للسيناريوهات المحتملة، إذ لا يبدو امام الطرفين إلا خيار التسوية. والعكس قد يعني الفوضى، لكن خطر الفوضى يبدو حاليا قاتلا، ويعود هذا السبب إلى وجود الشيطان الأكبر في المحيط الايراني، وهو مكشّر عن انيابه.
باكستان: لا يبدو ان الوضع في باكستان هو كما يريده الرئيس مشرّف. فقد اعترف اب القنبلة النووية الباكستانيّة انه باع لقاء مبالغ ضخمة الاسرار النووية لكل من إيران، وليبيا وكان قد طلب من بنازير بوتو في غير وقت، أن تسأل القيادة في كوريا الشمالية عن إمكان تزويد باكستان بتكنولوجيا الصواريخ البالستية، وقد حصل هذا فعلا. إذا مشّرف تحت ضغوطات كبيرة وكبيرة جدّا لكن كيف؟
هو متهم من الباكستانيين بأنه يخون الاسلام ويتعاون مع اميركا.
وهو متهم بأنه خان «طالبان» في افغانستان عبر التخلي عن دعمهم. وبذلك يكون قد سمح بتكوين حكم معاد له في خلفيته الاستراتيجيّة.
هو متهم من قبل الهند بأنه يدعم الانفصاليين في كشمير.
هو متهم من قبل اميركا بأنه لا يتعاون كفاية لضرب القاعدة التي تأوي على ارضه.
وهو متهم بأنه غير ديموقراطي، وينتهك حقوق الانسان.
وأخيرا وليس آخرا، هو متهم بأنه مرّر الاسرار النووية لاعداء اميركا. وأن اميركا غير مقتنعة ان العسكر بريء من تسريب هذه المعلومات للاعداء. فهل يمكن لعبدالقادر خان لوحده ان يمرّر هكذا معلومات بهذه الاهمية عبر تجاوز العسكر وقبض الملايين من الدولارات؟ لذلك سيزداد الضغط على مشرّف، وخصوصا في الموضوع النووي، وهو الذي تعرّض منذ فت
العدد 524 - الأربعاء 11 فبراير 2004م الموافق 19 ذي الحجة 1424هـ