يعد تدشين الكتب أحد المظاهر الثقافية الجميلة الأكثر بروزاً في المشهد الثقافي المحلي، ويصاحب معارض الكتب المحلية أو الدولية في العادة عدد من الفعاليات منها توقيع الكتب من قبل مؤلفيها، وهو ما يتيح فرصة أمام القرّاء والمهتمين للالتقاء بالمؤلفين والمبدعين والشعراء.
وبقدر ما تعكس هذه الظاهرة إدراك الناشرين لأهمية الحملات الدعائية التي يتعين أن تصحب الكتاب في رحلته الطويلة، وتضمن وصوله إلى أكثر عددٍ من القراء، هي أيضاً تُعدّ مؤشراً للوعي المتزايد عند الجمهور، بأهمية الكتاب كوعاء حامل للثقافة والمعرفة وأداة من أدوات التنوير، أثّرت عليه وزاحمته وسائل الترفيه والتواصل الاجتماعي الحديثة؛ لكنها لم تقض على مكانته التي تبدو أنها أقوى وأصلب مما كانت عليه في السابق.
ولتدشين الكتب مزايا عِدّة، ذلك أن التواصل الحميمي بين القارئ والمؤلف يخدم كليهما، فالمؤلف يرصد تأثير ما يكتبه على قرّائه، ويتلقّى ملاحظاتهم وانتقاداتهم وتساؤلاتهم، والقارئ يحظى بفرصة الدخول في حوار نقدي مع صاحب النص الذي استولى على عقله ساعات متواصلة، يستوضح فكرة، ويناقش أخرى، يؤيد المؤلف هنا ويعترض عليه هناك، وهذا الحوار المباشر يحقق الاكتمال النهائي برأيي لوظيفة استيعاب النص، وتفكيك شفراته والتثبت من فهم رسائله الكامنة.
هذا إلى جانب ما ينشأ عند القارئ من ارتياح نفسي، وحب وتضامن لنظرائه من عشاق الكتب، وأولئك المنهومين بالبحث عن سحر الكلمة ولذة اصطياد المعرفة. وتزداد هذه العلاقة رسوخاً كلما كانت الاهتمامات الفكرية متقاربة، ويتحدث الناقد والأديب الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا (ت 1994) في أحد كتبه عن رغبته القديمة في كتابة قصة، يعيش بطلها في بقعة نائية على تلّة صخرية مطلّة على مشهد خلاّب، ويبني فندقاً يجتذب إليه السياح الراغبين بالاختلاء مع الطبيعة، وكان هذا الرجل ينفق معظم ربحه على كتب يشتريها بالمئات من كل بلد، وفي بضع سنوات يتمكن من جمع ما يكفي من المال لتصفية الفندق، ويحوّله إلى مكتبة ضخمة مفتوحة لكل من يريد أن يكتب ويقرأ، وهو في مواجهة الطبيعة الخضراء. لم يكتب جبرا قصته تلك؛ لأنه كما يقول كان يعتقد إنها غير معقولة، إلى أن اكتشف في يوم من أيام العام 1976 أن في برّية من أجمل ما خلق الله من براري كاليفورنيا، هناك على رأس رابية أغدقت الطبيعة عليها هباتها، مؤسسة تشبه ما حلم جبرا بكتابته وهو فتى غرير، يقيم فيها الباحثون، يأكلون ويشربون، منصرفين بكامل حريتهم إلى الكتب الكثيرة التي يقرأونها وتلك التي يكتبونها، وكان من هؤلاء المفكر الراحل إدوارد سعيد (ت 2003) وهو منكب على تأليف كتابه الفريد، الذي اشتهر كثيراً فيما بعد «الاستشراق»، مع حشد من المفكرين، وقد انصرف كل منهم في تأليف كتاب لعله لا يقلّ أهميةً عمّا كتبه سعيد.
في كل عملية كتابية، إبداعية كانت أو بحثية، هناك ثلاثة عناصر رئيسية تحكم درجة تميّزه: موقف المؤلف ورؤيته، حجم المعلومات ودرجة ما تحمله من إثارة للوعي، وأخيراً: الموهبة، أي قدرة الكاتب على نظم أفكاره وصياغتها بشكل متقن وبلغة مفهومة. وحتى لا تتحوّل حفلات تدشين الكتب وتوقيعها إلى حملات إعلانية فارغة المحتوى، شكلية إلى درجة الملل، فإن الحاجة ماسة لضرورة القفز إلى ما هو أبعد من التدشين، إلى مناقشة الكاتب فيما كتب، ومحاورته ونقده، وبهذه الوسيلة يتحقق للكتاب وللكاتب مبتغاه من تأليفه.
ومن دون ذلك، فإن تدشين الكتب وحفلات التوقيع، تفقد مبرراتها الثقافية وتتحوّل إلى حدث ترويجي لا يختلف كثيراً عن أي حملة ترويجية لأي منتج استهلاكي، كالتي لا يخلو منها أي من محلات «الهايبر ماركت» في أي مُجمّع تجاري، وبهذا يتساوى الكتاب الجديد مع معلبات الصلصل، وزيوت الطبخ، والمعكرونة، والبسكويت.
إن ظاهرة تدشين الكتب ظاهرة ثقافية تنبئ عن تحوّل إيجابي مهم، وتحسّن نسبي في ترتيب الأولويات في مجتمعاتنا، لكن الأهم من تدشين الكتاب، هو إعطاؤه المجال الحيوي للنمو في بيئة ناقدة وقادرة على استيعاب وهضم ما تقرأه والإضافة عليه، وبهذا نجعل من قراءة الكتاب - وليس جمعها وتكديسها والمباهاة بها فحسب - ثقافة حية ومتحركة وعملية تدبّر يقظ لكل ما يُكتب.
في السابق كان المؤلف يضع كتابه ويهديه للخليفة أو الأمير أو السلطان ويحصل من وراء هذا «التدشين المخملي» الجوائز والعطاياً السنِيَة، أو لربما يسمع السلطان عن كتابٍ من الكتب فيصدر أمراً بنسخه حيث لا توجد مطابع، وكانت هذه النسخ يطلق عليها «نسخة خزائنية»، تُكتب بخطوط فائقة الجمال وتحفها الزخارف المذهبة، وهذه النسخ الخزائنية التي اكتظت بها مكتبات الخلفاء والملوك الخاصة، تعتبر اليوم من أجمل وأثمن ما خلّفته الحضارة العربية والاسلامية، ودليلاً حياً على روعة الفن الإسلامي في القرون السالفة، أما اليوم فتدشين الكتب أصبح شعبياً أكثر، ربما لأن من يكتبون أكثر من الناحية العددية ممن يقرأون!
أظن، خلافاً لما هو شائع، أن وسائل الإعلام الاجتماعي الجديدة ساهمت بصورة كبيرة في خدمة الكتاب والتعريف والتسويق له، كما أن توفّر الكتاب على شبكة الانترنت كثيراً ما يعمل على التعريف بالمؤلف بين الجمهور، ويفتح شهية القرّاء والمهتمين للاطلاع على محتواه، وبالتالي فإن النشر الالكتروني يوازي من حيث الأهمية النشر الورقي للكتاب ولا يلغيه، خصوصاً أن عدداً ليس بالقليل من القرّاء، لازالوا على وفائهم القديم للكتاب الورقي، على رغم مجانية وكرم الشبكة العنكبوتية إلا أن الكتاب الورقي يبقى له بريقه وإغراؤه ومتعته الخاصة.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 5239 - الإثنين 09 يناير 2017م الموافق 11 ربيع الثاني 1438هـ
أصبحت معارض الكتب وتدشين توقيع الكتاب فرصة لاصطياد القرّاء وبيع الكتب عليهم بأسعار مبالغ فيها !!
صارت موضة وفشخرة
للاسف حتى الكتاب اصبح ضمن لعبة الاستهلاكية
نسينا الجوهر واخذنا نركز على القشور والاستعراضات الفارغة.