أن تقع عيناك على خطأ لغوي أو نحوي في كتابٍ ما فهذا ممكن. فالكاتب عادةً ما يَألَف ما يكتبه إلى الحدّ الذي تتجاوز فيه عيناه، وتتسامح مع الأخطاء الواردة فيه. لذلك يلجأ أغلب الباحثين والمؤلفين لتجاوز ذلك إلى إعطاء أبحاثهم مراجعين أو مدققين مختلفين؛ كي يلاحظ كل واحد منهم ما سها عنه الآخر. وتعدُّد المراجعين يعود أساساً إلى تفادي استكانة العين المفردة تجاه المكتوب.
لكن، أن تتضمّن الكتب أخطاءً أساسية في المادة، كالمعلومة أو النقل أو ربط الأشياء بالتدليس وخلاف ذلك، فهذا ما لا يُغتفر على مستوى الأمانة العلمية والأخلاقية، خصوصاً إذا كان يترتب عليها أشياء تحدّد مصائر أمم. كما أن ضياع كتاب وأثره لأسباب خارجة عن الإرادة أمر يحصل في المناطق التي تشهد كوارث طبيعية، لكن أن تكون الأسباب بشرية متعمّدة فهذا أمر مريع. من هذا المنطلق أواصل ما بدأته في المقال السابق بشأن أغرب ما جرى في تراثنا العربي والإسلامي، من خلال قراءة كتاب «أغرب الأخبار في ضياع الحقائق والكتب والآثار» لفاضل جابر ضاحي.
فما ورد عن مثالب التأليف هو ما يتعلق بأخطاء النسَّاخ. فالكثير من هؤلاء النُّسَّاخ كانت وظيفتهم للعيش هي نسخ أكبر عددٍ ممكنٍ من الكتب الموكل إليهم نسخها، لذلك كان عمل الكثير منهم لا يُراعي الدّقة من حيث الكلمات والحروف؛ بل إنهاء العمل كيفما اتفق، ومن هنا وقع «التصحيف والتحريف». لذلك حَرَص كبار العلماء أن يتصدّوا بأنفسهم لمسألة النسخ كما هو الحال مع ابن خلكان الذي كان يقول: «وقيّدتُ من الألفاظ ما لا يؤمَن تصحيفه» كما جاء.
ولأن الخوف من ذلك الأمر كان كبيراً بسبب انتشاره، فقد تصدّى الكثير من المعنيين لذلك الأمر، وأصدروا في سبيله الكتب والنصائح، كما مع الحسن بن عبد الله العسكري وأبي الفتح البليطي الموصلي، وكان التأكيد على أن من «آفات العلم خيانة الورّاقين» حرصاً منهم على جودة المكتوب.
ومن الأشياء التي قادت إلى وجود الأخطاء في المؤلفات، هو مسألة الوهم والسهو، حسب رأي المؤلف. فالذهلي كان يصف تصنيف أحد كبار المؤلفين أن «له وَهْمٌ كثيرٌ في تواليفه يدخل عليه الداخل من العَجَلَة والتحويل من مصنف إلى آخر». وفي موضع آخر: «له أوهامٌ وألوانٌ من ترك المراجعة، وأخذ العلم من صحف وصنف علماء المسلمين إلى أوهام المؤلفين» كما ينقل المؤلف.
وفي موضعٍ آخر، يشير المؤلف إلى حالة خطرة وُجِدَت عند بعض المؤلفين وهي الجنوح نحو الكذب. ويذكر ضاحي نصاً لابن النديم يصف فيه أحوال ذلك بأن الأسمار والخرافات كان «مرغوباً فيها مشتهاة في أيام خلفاء بن العباس، فصنّف الوراقون وكذبوا فكان ممن يفتعل ذلك رجل يُعرف بابن دلان وآخر يُعرَف بابن العطار».
وفي أحيان أخرى، لا يكون كذباً صريحاً لكنه موقف بعيد عن الحياد. فخلال دولة الأتابكة التي سادت في فارس وآذربيجان والموصل والشام، كان موقف بعض كبار المؤرخين بعيداً عن الحياد، والسبب هو العلاقة التي كانت تربط بعضهم بتلك الدولة وما كانوا يحصلون عليها من امتيازات وعطاءات.
وقد مرّت حوادث مهمّة خلال ذلك التاريخ، إلاّ أن بعضهم آثر السكوت عمّا جرى فيها، وذلك رغبةً منه ألاّ يكتب المشين عنها. خصوصاً في الصراع الذي دار بين صلاح الدين الأيوبي مع الأتابكة الزنكيين، وكذلك الحال حصل مع المماليك. لكن كانت هناك أسباب أخرى لدوافع سياسية، أفضت إلى تجنيد الأقلام للطعون في الطرف الخصم. وأشار إلى ذلك بوضوح الذهبي في الحيوان.
في قسم آخر من الكتاب يتحدّث المؤلف عن ضياع الكتب بسبب الاضطرابات السياسية. ويشير إلى ثالث أكبر مكتبة عربية وإسلامية في الأندلس، وما تعرّضت له من تخريب ودمار بعد تفتت دولة الأمويين هناك، وهي التي جُمِعَت فيها الكتب من كل أنحاء الدنيا. كذلك الحال مع مكتبة الفاطميين في مصر بعد إسقاطها، إذ كانت تضم مليونَيْ كتاب، وهي «خزانة ليس لها في خزائن الإسلام نظير» كما وصفها ابن خلدون.
يشير المؤلف كذلك إلى ما حَلَّ بمكتبة الحافظ ابن أبي عاصم أثناء ثورة الزنج من دمار؛ وإلى كتب المحدث محمد بن عبد الرحمن بن المرزبان الهمذاني خلال فتنة همذان من تلف؛ وإلى مكتبة الوزير البويهي سابور بن أردشير التي كانت تضم 10 آلاف مجلد من حرق بعد أن دخل ضغرل بك بن سلجوق بغداد؛ وإلى كتب المحدث السبتي في مراكش من ضياع خلال صراع الموحدين والمرابطين، فضلاً عن مكتبة بغداد التي دمّرها المغول في القرن السابع الهجري.
لكن كانت هناك أسباب أخرى لإتلاف الكتب، وهي التي تتعلق بالخلاف الديني. فخلال فتنة خلق القرآن وفتن أخرى أتلِف كتاب عمر بن شبة البصري، ودُمِّرت مكتبة القاضي عبد الله القزويني وأبو جعفر الطوسي ومكتبة أبو بكر بن مقسم. وأحرِقَت كتب المعتزلة والفلاسفة كعبد الوهاب الجيلي وعلي الجابي ومكتبة العلامة أبو الحسن الحلبي التي كانت تضم 10 آلاف مجلد.
وفي جانب آخر يذكر المؤلف أسباباً عجيبة أدت إلى إتلاف الكتب، وهي قيام المؤلف ذاته بحرق كتبه، بدافع الزهد أحياناً كما هو الحال مع مقرئ البصرة أبي عمرو بن العلاء والمحدث داوود بن نصير الطائي الكوفي وشعبة الحجاج الذي أوصى نجله بغسل كتبه وإتلافها.
الحقيقة أن التدقيق في هذه الصورة المهمّشة من تاريخنا مهمّ جداً. وهي تعكس أمراضاً ذاتية وأخرى سياسية ودينية مازلنا ندفع ثمنها لغاية الساعة، بل ونعيد تكرار جزء منها مع الأسف.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5238 - الأحد 08 يناير 2017م الموافق 10 ربيع الثاني 1438هـ
احسنت على هذا المقال الراءع
الحمد لله اغلب المسلمين لا يقدسون بشر أبداً و لكن هناك احترام لاصحاب رسول الله اما تقديس الأفراد و اعطائهم صفات و خرافات و خوارق في ليست من الاسلام بشيء لذلك تجد اغلب المسلمين لا يؤمنون بالخرافات و الخوارق التي يؤمن بها بعض الاقليات
يبدو انك لم تقرأ التاريخ بحيادية ..
هذا هو حال الجميع حيث يتبعون كتب كتبت منذ عدة قرون لا يعرف مدة صحتها ولاي هدف كتبت
شلون ما يصير حذف وتغيير وتبديل وانت تشوف شوف عينك صحفي فقط يتحدث عن حدث موجود في معظم الكتب التاريخية يتطرق له من بعيد فيتهم انه اساء لهذا الرمز ويحكم عليه.
فمن وظيفته النقل والنسخ لا بد ان يخاف على نفسه من النقل المضبوط والصحيح لان ذلك ربما يدخله السجن او على الاقل يقطع رزقه
يعتمد على النسخ في أي زمن واي وقت وقع لأن الحكومات والدول تؤثر على الناسخ الذي يجد حرجا في النقل الصحيح لكل الموروث بل ربما يزجّ به في السجون اذا نقل من دون حذف وها نحن نرى ان صحفيين ادخلوا السجن لمجرد نقل كلام موجود في الكتب التاريخية بحجة اهانة رمز فما بالك بنقل تاريخ فيه ما فيه من حقائق يعتبرها البعض مسيئة لمعتقده ومبدئه
سبحان الله .. تاريخنا رفع الوضيع ووضع الرفيع وشوه وغير، وأظهر وغيّب ..
فلا غرو أن نجد كثير من المسلمين يقدسون شخصيات لا تستحق التقديس، لأن هذه الشخصيات هي التي وضعت لنفسها هالة قدسية ولمّعت نفسها ..
جميل جدا .. بارك الله فيك وبانتظار المزيد يا أ.محمد،
متألق دائما يا استاذ محمد
ومقالاتك اكثر من رائعة
لا حشو فيها ولا غثاء
بارك الله فيك
الأخ أبو عبدالله
دائماً رائع، استمتعت بمقالك، وهالني الحزن على تاريخنا
كريم