من الكتّاب الغربيين القلائل الذين ارتبطوا ارتباطاً وثيقاً بقضايانا العربية، يبرز الكاتب الفرنسي آلان غريش، رئيس تحرير نشرة «لوموند ديبلوماتيك»، وعضو هيئة تحرير مجلة «مغرب مشرق» الفرنسية.
من بين أسماء ستة كتب بين يدي، ثلاثةٌ منها تتكلّم عن فلسطين: «فلسطين 47: التقسيم المجهض»، «إسرائيل فلسطين: حقائق حول النزاع»، و»عَلامَ يُطلق اسم فلسطين؟»، والأخير كتاب جميل وممتع، وددتُّ لو يقرأه كل عربي ومسلم، حيث تتصدّر غلافه صورةٌ لمدينة «يافا» القديمة.
غريش حين تلقاه تشعر بألفةٍ وكأنك تعرفه منذ زمنٍ بعيد، حيث يتحدّث معك بالعربية، بلهجةٍ مصريةٍ محببة، حيث وُلد لأمٍ يهودية وأب قبطي، في العام الذي وُلدت فيه «إسرائيل» (1948)، ونشأ في بيت يساري، وعاش صباه في القاهرة القومية أيام عبدالناصر، التي كانت تنادي بالتخلص من الاستعمار البريطاني والفرنسي. وكان أطفال المدارس بمختلف دياناتهم، ينشدون معاً في طابور الصباح: «الله أكبر فوق كيد المعتدي». وفي مدرسة «الليسيه» الفرنسية، كان يتلقى دروساً عن فولتير وهوغو وفق المنهج الفرنسي، إلى جانب المنهج المصري. وعاصر العدوان الثلاثي الذي شاركت في بريطانيا وفرنسا وإسرائيل (1956)، انتقاماً من قرار مصر تأميم قناة السويس، وما تلاه لاحقاً من نكسةٍ للقومية العربية في حرب حزيران (يونيو) 1967.
في بداية الستينات، سافر غريش إلى فرنسا، ليعمل صحافيّاً، وطوال ثلاثة عقود لم ينقطع عن كتابة المقالات وتأليف الكتب، وأصبحت فلسطين وشعبها قضيته الأولى، بل إن رسالته للدكتوراه كانت عن منظمة التحرير. وكان في كل ذلك يصدر عن موازين العدالة الاجتماعية وما يمليه عليه الضمير الإنساني اليقظ. وكان يركّز على المشروع الصهيوني الاستيطاني، ويقارنه في دمويته وبطشه مع مشاريع المستعمرين الأوروبيين ضد السكان الأصليين، كما حدث في جنوب إفريقيا أو الجزائر وأستراليا. بل إنه بعد ثلاث سنوات، انخرط في الحركة المناهضة لحرب فيتنام، حيث كانت الولايات المتحدة تمطر ذلك البلد الصغير بالأسلحة الكيماوية من قاذفات الصواريخ، وما أسرع ما ينسى الغرب ما يقترفه من جرائم بحق الشعوب الأخرى.
كان الطريق يبدو طويلاً لجيله، فمن الهند الصينية إلى المستعمرات البرتغالية، ومن إفريقيا إلى أميركا اللاتينية، كانت الساحة حافلة بحركات التحرر الواعدة، حيث تهتز الحركة الاستعمارية، «أحد أسوأ نظم القهر التي بنيت على أساس إنكار إنسانية الآخر». ويقول مستشرفاً أفق المستقبل: «مع مطلع القرن الجديد، ها هو الخلل يقترب من الانتهاء، مع صعود الهند والصين والبرازيل، ما يؤذن بالنهاية القاطعة لتلك الحقبة».
هذا هو السياق الذي تبوأت فيه فلسطين مكانةً مركزيةً، في العالم، وفي نفس الكاتب الحر، وفي نفوس ملايين الأحرار من مختلف القارات، حيث تشكّل «أكثر النزاعات استنهاضاً لاهتمام الرأي العام العالمي».
في مقدمة الطبعة العربية لكتابه، يشير إلى الصدمة التي خلّفها الربيع العربي، شبيهة بصدمتي نكبة 48 و67، ويقول: «ها نحن نشهد انتهاء حقبة طويلة من الجمود والركود، مع أخبار هروب الرئيس بن علي، والإطاحة بمبارك، والحرب في ليبيا، ورحيل صالح، واندلاع التظاهرات في الأردن والمغرب وبعض دول الخليج، وصار بعضها يتبوأ مركز الصدارة في الأخبار».
كان يكتب عن أجواء العام 2011، وكان يريد أن يفنّد أن تكون فلسطين قد أصبحت مسألةً ثانويَّةً لدى الشعوب العربية، التي استعادت زمام السيطرة على تاريخها. ويردُّ على ذلك الرأي باستشهاده بعدد من الحوادث، كاستقبال تونس لزعيم «حماس» هنية، والهجوم على السفارة الاسرائيلية في القاهرة، التي لم تفلح كل المساعي للتطبيع شعبيّاً، ولقيت رفضاً قاطعاً طوال أربعين عاماً، من رجل الشارع إلى معارض الكتاب، وانتهاء بمهرجانات السينما الدولية.
إنَّ آلان غريش يقدّم نموذجاً حيّاً للإنسان الكاتب الشريف، المنحاز سلفاً إلى قضية فلسطين العادلة، التي تظلُّ عصيةً على كل محاولات التذويب والاستغفال والتطبيع.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 5228 - الخميس 29 ديسمبر 2016م الموافق 29 ربيع الاول 1438هـ
سيدنا.. المسألة هي العكس لوالدي آلان غريش.. الوالد يهودي والأم مسيحية
الى كل من حاول التطبيع والرقص على اشلاء اخواننا الفلسطيننييين ان يتعلم من هذا الدرس