قبل أيام معدودة اشتغل الناس في البحرين وخارجها بحادثة مقتل الفتاة، ونسج بعض صنّاع الشائعات ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، القصص والحكايات والروايات التي تمس الأعراض والأخلاق بصورة مباشرة، وكل ذلك باسم شاهد عيان، على رغم أن شاهد العيان هذا يحكي القصة وكأنه جالس مع أحدهما، الجاني أو المجني عليها، لأن التفاصيل التي سردها لا يمكن لأحد أن يأتي بها بهذه الحيثيات الدقيقة، إلا إذا كان قريباً جداً في وقت الحدث لأحدهما، ومن المستبعد جداً أن يأتي أحد من الناس كل تلك التفاصيل وهو بعيد عنهما .
بالتأكيد أن من كتب القصة كان يمتلك القدرة الفائقة على تحريك مشاعر الناس تجاه الحدث بسرعة قد تفوق كل التصورات، وأكثر من هذا وذاك، يستطيع أن يجعل الكثيرين من مستخدمي مختلف وسائل التواصل الاجتماعي يروّجون قصته، على أنها القصة الحقيقية لما حدث، على رغم ما فيها من أخطاء إملائية ولغوية تمكن كاتبها ومؤلفها ومخرجها ومنتجها من خلال المضامين التي استخدمها إقناع الناس بصحتها. ونقول للناس الذين صدّقوها وقاموا بنشرها في أوساط المجتمع، حتى أصبح يتحدث بها كل فئات المجتمع، كباراً وصغاراً ونساء وفتيات، في مجالسهم الخاصة والعامة، وتباينت فيها الآراء وردود الفعل، وكثرت عنها التحليلات التي لا تستند إلى وقائع حقيقية، فهناك من الناس قد نددوا بالحادث بكل تفاصيله، ووصفوه بالفظيع، وقالوا إن ما حدث لا يتناغم مع يتصف به المجتمع البحريني. والبعض تريث ولم يبدِ أي رد فعل على الحدث، وكانوا يقولون أن الأسباب كانت غامضة، والبعض تمعن في القصص التي نشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبعد قراءتها بعقولهم الواعية، لم يصدّقوا ما جاء في الإشاعة، ولم يساهموا في نشرها والترويج للتفاصيل التي سردتها، للأسباب التي ذكرناها آنفاً.
في هذه الأثناء، وعلى مدى ثلاثة أيام، كانت أسرة الضحية تتجرّع الغصص من كل كلمة قبيحة قيلت عن ابنتهم عبر مختلف الوسائط الإلكترونية، والتشويه المتعمد أو غير المقصود لسمعة المرأة المجني عليها ولأسرتها. ولا ريب أن الإشاعات المصطنعة التي نالت ما نالت من أخلاق السيدة القتيلة، تركت أثراً سلبياً على المجتمع عامةً، وعلى أسرة المجني عليها بصورة خاصة، وأعطت للرأي العام الخارجي انطباعاً سلبياً عن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، وجعل الكثيرين منهم يشكّكون في مستوى الوعي الذي يتمتعون به، ولهذا قيلت عبارات قاسية عن الإشاعة، ومن ضمن ما قالوا إن «الإشاعة يؤلفها الحاقد، وينشرها الأحمق، ويصدّقها الغبي» .
ويقصدون أن الإشاعة ليست إيجابية وليست هي المصدر الذي بإمكاننا الحصول منه على المعلومات الصحيحة، فهناك قنوات معروفة تقوم بهذا الدور علناً، ولها مصادرها، لا أحد يختلف مع من يقول أن الإشاعة لم يقصد من ورائها إلا إثارة الفوضى والتشكيك، وتناول أعراض الناس وإثارة سوء الظن وتتبع عثرات الناس، فالأصل فيها الحقد والعدوان والحرب النفسية على الغير، وقيل عنها أيضاً إنها كانت ومازالت أداة من أدوات الحروب النفسية وتفكيك المجتمعات، والعائلات، ومصدرو الإشاعات لا يستطيعون نشرها إلا في البيئات الخصبة لتفشيها في أوساطها .
في الزمن الماضي كانت المرأة متهمة بنشر الشائعات وتهويل الحوادث في مجالسها، ويكون حيز انتشارها محدوداً بدائرتها، وبسهولة جداً يعرف مصدرها ومن قائلها، أما في عصرنا الحاضر، عصر التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، فاختلف الأمر كثيراً عن السابق، فأصبح الرجل هو مصدر الشائعات، وهو الذي يقوم بترويجها إلكترونياً، من دون أن يكشف عن نفسه وعن مصادر معلوماته. والمصيبة إذا ما وجدنا القروبات التي هي محسوبة على المتعلمين، وأصحاب الرأي والعقول النيرة، تساهم بصورة واسعة في نشر وترويج مثل هذه الشائعات غير العقلانية.
هذه السلوكيات السلبية ليس لها أية مبررات منطقية، لكنها انعكاسٌ لمستوى الوعي والثقافة والفكر المنخفض جداً لدى مروّجيها. ويقول علماء النفس والاجتماع إن الشخص إذا ما تجرّد من المعارف والخبرات وجل السلوكيات الحضارية التي اكتسبها طوال عمره، واستخدم الأدوات البدائية في تعامله مع الشائعات، يشعر عندما ينفرد بنفسه بعيداً عن عيون الناس، بضعف في شخصيته ومستوى تفكيره ووعيه، التي حاول أن يظهر خلافها لمجتمعه. فالشائعات لا يتفاعل معها إلا من لديه نوازع الحقد والعدوان والتشفي، والتدهور في مستوى الأخلاقيات والقيم، خاصة قيم العدل والحرية وحقوق الإنسان، ومن يجعل نفسه أداةً من الأدوات التي يفرغ من خلالها حقده وكراهيته البغيضة على الآخرين، لا يلتفت إلى ما كان يظهره من إيجابيات مصطنعة للناس. فالدراسات النفسية تؤكد أن الاضطراب النفسي لدى البعض يجعلهم يعانون من برود في عواطفهم وعدم الإحساس بمعاناة وألم الآخرين، فلهذا يتجهون إلى صناعة الشائعات التي تمس سمعة وأخلاق الآخرين، ونشرها في مجتمعاتهم من دون أن تتحرك مشاعرهم الإنسانية. وهؤلاء يتفننون في اختيار العبارات المنمقة، ما يجعلون أكاذيبهم وافتراءاتهم وكأنها حقيقة في أوساط المجتمعات التي لا تحاول التمعن فيها .
مما لا شك فيه أن الشائعات ناتجة من إسقاطات نفسية، وهي تكشف حقيقة صانعيها من الناحية النفسية والفكرية والثقافية والاجتماعية والإنسانية. فالمجتمعات الواعية تستطيع كشف أهداف الشائعة السيئة والتصدي الحازم لها، ومنعها من التغلغل والانتشار بين الناس. ونأمل من المجتمع أن ينتبه جيداً إلى المعلومات والأخبار التي يتسلمها من أية وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً ما فيها من مساس بالمشاعر الإنسانية وتشويه سمعة الآخرين، والتي لا تستند إلى مصادر معروفة ومعتمدة عند العقلاء الواعين.
إقرأ أيضا لـ "سلمان سالم"العدد 5226 - الثلثاء 27 ديسمبر 2016م الموافق 27 ربيع الاول 1438هـ