هو أسبوع مجنون، ذلك الأسبوع الثاني الذي انقضى من شهر ديسمبر؛ إذْ لا تكاد تحبس أنفاسك لحادثة مريعة حتى تحبسها من جديد لهول حادثةٍ أخرى أكثر ترويعاً، فهذا السفير الروسي يُغتال في تركيا أمام كاميرا التصوير على مسمع ومرأى من الجميع، وهذا «مجنون» جديد من الشباب العربي اليائس البائس في أوروبا يدهس الناس بشاحنة كبيرة في شارع مزدحم ببرلين... ولكن أين إرهاب العصابات أو الذئاب المنفردة من أعمال عميدة الإرهاب العالمي، إرهاب «دولة بني صهيون» حين تغتال العالِم المهندس الطيّار محمد الزواري أمام بيته في مدينة صفاقس التونسية؟
صحيح هو أسبوع جديد من النكبات للنسيان، ولكن ليس بهذه السهولة؛ إذْ يأبى الكيان الصهيوني أن يفتك أحدٌ منه زعامة الإرهاب العالميّ، كما يأبى ألاّ يكون في مقدمة الأخبار وتحت مجهر الإعلام. لذا خطّط منذ ستة أشهر لتمتدّ يد جهاز المخابرات «الموساد» لتغتال يوم الخميس 15 ديسمبر/ كانون الأول 2016، عشية انطلاق احتفال تونس بالذكرى السادسة لثورة الياسمين، واحداً من أبناء تونس البررة: محمّد الزواري الذي خطا في صمتٍ ودون أن يعلم به أحد، على منوال الكثير من المقاومين التونسيين والعرب، الذين وهبوا أنفسهم لأم القضايا العربية، قضية تحرير فلسطين من الغاصبين الصهاينة. فمن هو هذا الشهيد المفاجئ؟ ولماذا تغتاله يد الغدر الصهيونية الآن؟
وُلد محمد الزواري بصفاقس في يناير/ كانون الثاني العام 1967، بدأ تعليمه بالمدرسة الابتدائية «بالي»، ثمّ التحق بمعهد الذكور الهادي شاكر ليتمّ تعليمه الثانويّ، أمّا تعليمه الجامعيّ فقد كان بالمدرسة الوطنيّة للمهندسين بصفاقس حيث درس فيها الهندسة الميكانيكيّة. كان معروفاً بدماثة أخلاقه، ونبوغه خلال مراحل تعلّمه، كما كان عضواً في قيادة الاتحاد العام التونسيّ للطلبة بصفاقس، الذراع الطلابيّ لحركة النهضة الإسلاميّة. وتحت وطأة غطرسة الأجهزة الأمنية لنظام بن علي البائد، تعرّض الشهيد للتضييق والمطاردة، واعتقل عدّة مرّات حتى اضطرّ إلى الانتقال إلى ليبيا، ثمّ طلب اللجوء السياسيّ لدى جمهوريّة السودان، حيث أقام بها نحو 6 سنوات، قبل أن يعود إلى سورية ليقيم بها، ويعمل مع شركة في الصيانة.
مع قيام الثورة التونسية عاد الشهيد إلى تونس، ليستقر فيها برفقة زوجته، وليواصل بحوثه على أرض وطنه، حيث قدّم مشروع تخرّجه في الهندسة بالمدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس العام 2013، والمتمثل في اختراعه لطائرة بدون طيار. بعدها عمل الشهيد التونسي أستاذاً جامعياً بالمدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس، وأسّس مع عدد من طلبته وبعض الطيارين المتقاعدين، نادي الطيران النموذجي بالجنوب. وشرع في إعداد مشروع الدكتوراه والمتمثّل في إنشاء غوّاصة تعمل بالتحكّم عن بعد.
وقد اختارت «الموساد» محمد الزواري دون غيره نظراً لدوره الكبير في رفد المقاومة الفلسطينيّة، وتحديداً كتائب القسّام، الجناح العسكريّ لحركة المقاومة حماس، وذلك من خلال طائرات الأبابيل التي فاجأت العدو الصهيوني العام 2014، وألحقت به الخسائر تلو الخسائر.
ولم يكن الشهيد محمد الزواري الأول ولا الأخير من الذين وهبوا أنفسهم لخدمة القضية الفلسطينية، فقد كان لأب الحركة الوطنية التونسية الزعيم عبد العزيز الثعالبي دور مشهود في تنظيم مؤتمر القدس العام 1931؛ حيث كان العضد الأيمن للشيخ أمين الحسيني، يجوب عواصم العالم الإسلامي لحشد الدعم لتنظيم المؤتمر وحضوره. كما لا ننسى المقاوم لزهر الشرايطي الذي سافر إلى فلسطين في حرب 1948 صحبة جمعٍ من رفاقه، وميلود بن ناجح، وآخرين ممن تمّ تبادل رفاتهم في الصفقة التي تمّت سنة 2010 بين الكيان الصهيوني والمقاومة اللبنانية.
ولن تنسى المقاومة الفلسطينية اختلاط دماء الشهداء الفلسطينيين بإخوانهم التوانسة في الغارة الشهيرة على اللاجئين الفلسطينيين في منطقة «حمام الشط» بتونس سنة 1985، حين حاول العدوان الصهيوني قصف مقر الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي أوقع أكثر من 70 شهيداً بين الفلسطينيين والتونسيين.
وتأتي حادثة اغتيال الشهيد محمد الزواري لتؤكد عربدة الكيان الصهيوني في المنطقة العربية، وانتهاكها سيادة الأوطان، الأمر الذي دفع السلطات التونسية إلى التهديد بالذهاب بعيداً في محاسبة الجهة التي تقف وراء الاغتيال. كما تؤكّد هذه الحادثة مركزيّة القضية الفلسطينية وسط اللغط والفوضى التي تعمّ المنطقة العربية؛ إذْ تراجع الاهتمام الإعلامي بهذه القضية جرّاء تصاعد وتيرة الإرهاب والصراع المسلح في بؤر الاقتتال الطائفي والعرقي والدولي الذي ذهب باستقرار العالم، ولا سيما الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
إنّ استشهاد محمد الزواري يقدّم درساً للشباب العربي والإسلامي المستلَب والمدفوع إلى محرقة مفتوحة بانَ بوضوحٍ حجم الوهم والمؤامرة على الإسلام فيها؛ فقد خبر العالم فظاعات القيادات الإرهابية في الأردن وسورية والعراق وتونس وليبيا، وهم يُقدِمون على قطع الرؤوس وحرق الأحياء وتفجير النساء وسبيهن واستخدام الأطفال دروعاً بشرية وقنابل موقوتة والعياذ بالله.
لم يكن محمد الزواري صنيعة «داعش» ولا لعبت به أفكار المتطرفين من دعاة العبثيّة، إنّما وهب علمه وروحه لقضية عادلة، فكانت شهادته درساً لهؤلاء الأغرار، وعِظةً لمن هانت عليه نفسه أن يقدّمها قرباناً للوطن، أو للقضية الأمّ لفلسطين الشهيدة. لقد أعاد بشهادته البوصلة نحو معاناة الفلسطينيين وحقهم في تقرير المصير، فلسطين الدولة الوحيدة في العالم المستعمرة، فلسطين الحق السليب، احتلال فلسطين العار العالمي المستمرّ على جبين الأمم المتحدة ومجلس الأمن ودعاة الديمقراطية في العالم.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 5225 - الإثنين 26 ديسمبر 2016م الموافق 26 ربيع الاول 1438هـ
مقدار الألم والحرقة، بمثل الفرح و الأمل
الألم لفقدان الشهيد الفذّ،شهيد الأمة العربية الإسلامية، الذي جاهد حق الجهاد، وساهم في نُصرة عزّة العروبة والإسلام
الحرقة أنّ ذلك تمّ في بلاده،أمام بيته (بمساهمة بني بلده عن جهل)،وأنّ وصول الجهاز سيّء الذِّكر استطاع فعل ذلك وسط ذهول
الفرح،لأنّ الشهيد جعل الكثير ممّن ينتصرون للقضية الفلسطينية يجدّدون الثقة أن المناصرين لقضية الوطن المسلوب كثر بل في تزايد ولا يدخرون جهدا في سبيلها
الأمل كبير جدا لأن العشرات والمئات من المتميزين هم مشروع محمد زواري جديد
جرح فلسطين يحتاج إلى مزيد من الأدوية الزوارية، فلسطين لم تعد البندقية فحسب بل العقل المدبر الفاعل الصانع المبدع..... (حرب العقول........)
فلسطين تحتاج إلى أمثال الشهيد الزواري كي تواجه هذا الاحتلال الذي آن له أن يزول.
رحم الله الزواري
رائع أستاذ قولك:
لم يكن محمد الزواري صنيعة «داعش» ولا لعبت به أفكار المتطرفين من دعاة العبثيّة، إنّما وهب علمه وروحه لقضية عادلة، فكانت شهادته درساً لهؤلاء الأغرار، وعِظةً لمن هانت عليه نفسه أن يقدّمها قرباناً للوطن،