العدد 522 - الإثنين 09 فبراير 2004م الموافق 17 ذي الحجة 1424هـ

أزمة النظام الروحي في إيران وأزمة النظام القبلي في العراق

عبدالهادي بوطالب comments [at] alwasatnews.com

تتضافر الأنباء الأخيرة الواردة من إيران والعراق على مواجهتهما أزمة بنيوية حادة منذرة بعواقب خطيرة : الأزمة الإيرانية هي أزمة النظام الروحي أو «الديني» الذي يقوم على رأسه حكم ولاية الفقيه المرشد العام للجمهورية الإسلامية، والأزمة العراقية التي يجتازها نظام مجلس الحكم الانتقالي هي أزمة الحكم القبلي العشائري في مظهره الجديد الذي نصـبه الاحتلال واختاره ممثلا للفسيفيساءات العِـرقية والدينية والمذهبية والحزبية والقبلية والعشائرية. وجاء في شكل سفينة نوح فيها من كل زوج اثنان، ما يعني أنه نظام التفرقة التي تتعارض مع نظام الوحدة التي رسخها بقوة الحديد والنار النظام البعثي البائد.

نظام الثورة الإسلامية الإيرانية نظام ذو رأسين: أحدهما ديني يستمد شرعيته من تزكية الفقهاء رجال الدين ويسوده الإمام الفقيه الذي يشكل مرجعيته الوحيدة التي لا تعلو عليها سلطة. وثانيهما ديمقراطي جمهوري يُنتخب رئيسه وبرلمانه بالاقتراع الشعبي ويكون رئيس الجمهورية فيه مسئولا أمام الولي الأعلى الفقيه وأمام البرلمان في آن واحد.

في هذا النظام ينتخب الشعب نوابه، ويعين الإمام الأعظم أعضاء مجلس صيانة الدستور الذين يمارسون اختصاصات واسعة من بينها سلطة اختـيار المرشحين لخوض الانتخابات التشريعية والمجالس المحلية وسلطة إبطال انتخابهم، وحرمانهم من المشاركة في الانتخابات بسلطتهم التقديرية. ولأنه مجلس معين من الإمام الفقيه أطلق عليه اسم مجلس الإمام، في مقابل مجلس النواب الذي يمكن أن يُطلق عليه اسم مجلس رئيس الجمهورية.

يوجد اليوم على رأس النظام الروحي آية الله علي خامنئي الذي ورث سلطة الإمام الراحل الخميني مؤسس الثورة، وعلى رأس النظام الجمهوري الديمقراطي الرئيس محمد خاتمي الذي هو في آن واحد رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، لكن الفقيه الإمام (الذي يُـعتبر «رأس» الدولة بينما يُعتبر خاتمي رئيسها) يمارس سلطة واسعة على هيئة القضاء، وعلى مجلس صيانة الدستور، وعلى الجيش الذي هو قائده الأعلى، وعلى الموارد المالية التي تسـتخلص من سواد الأمة بوصفها ريْـع الخمس طبقا لقوله تعالى في سورة الأنفال: «واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمُـسه وللرسول» (الانفال - 41). وتوضع هذه الأموال في صناديق خاصة تحت إشراف الإمام الفقيه وتحت تصرفه منفصلة عن موازنة الدولة.

يقال عن الجبهة المساندة للإمام المرشد إنها جبهة المحافظين، وعن الجبهة الملتفة عن رئيس الجمهورية إنها جبهة الإصلاحيين، لكن الخلاف بينهما يتجاوز حدود الإصلاح والمحافظة ليتحول إلى شرخ اجتماعي يقسم المجتمع الإيراني إلى فصيلتين متخاصمتين تزداد شقة خلافهما تباعدا كل يوم أكثر. وبلغت الأزمة السياسية أشدَّها باتخاذ مجلس صيانة الدستور قرارا بتاريخ 11 يناير/ كانون الثاني 2004 يقضي بـمنع ترشيح ما يقـرب من 45 في المئة من الذين رشحوا أنفسهم للانتخابات التشريعية التي ستجري في شهر فبراير/ شباط من هذه السنة وهم ينتمون إلى نزعة الإصلاح والتجديد.

ووصل عدد من مُـنع عليهم الترشيح لعضوية البرلمان من الإصلاحيين 80 مرشحا من بين 83 الموجودين اليوم في البرلمان الذي انتهت صلاحيته، أي أن مجلس الدستور لم يرخص بالترشيح إلا لثلاثة من النواب الإصلاحيين. كما منع ترشيح ما يقارب النصف في لوائح المرشحين الآخرين الذين بلغ عددهم 8000 مرشحا.

إن الأمر يتعلق بصنع برلمان جديد يغير تركيب البرلمان المنتهية صلاحيته والذي كان يضم 290 نائبا ويملك فيه الإصلاحيون 210 مقاعد.

برَّر مجلس صيانة الدستور قراره بأن من رفض ترشيحهم للانتخابات ليست لهم أهلية لا لممارسة حق الترشيح، ولا لممارسة اختصاصات النائب البرلماني، أو لشغل مقعد في الحكومة، وأنهم يعادون التوجه الديني للدولة. بينما قال أحد النواب الإصلاحيين عن المحرومين من حق الترشيح إن قرار مجلس صيانة الدستور انقلاب مدني على النظام، وإذا لم يتراجع المجلس عن قراره فإن الانتخابات المقبلة لن تكون إلا مجرد تعيينات تقوم بها السلطة الدينية العليا من وراء حجاب.

إنها إذا أزمة نظام بنيوية تجتازها الثورة الإسلامية الإيرانية. وستكون لها تداعيات خطيرة أشد وقعا من زلزال «بام» المأسوي، حتى ولو مارس الإمام خامينئي سلطة الحَكم، لأن تحكيمه لن يحسم الشرخ الذي ينخر جسم المجتمع الإيراني.

إن النظام الإيراني في تركيبه الهش الحاضر يجتاز أزمة وجود، لا يخرجه منها إلا إسلام المحافظين القيادة للاصلاحيين الذين يملكون برنامجا قادرا على تحقيق التغيير.

والتمسك بالنظام الروحي الديني وبما يملكه من سلطات لا حد لها سباحة ضد تيار الحداثة والتجديد الذي تزكيه وتعانقه الشعوب بتلقائية وحماس. وهذا النزاع بين الفريقين متجذر في أذهان الفرقاء الاخوة الأعداء الذين أصبح تعايشهم في وئام صعب وحتى مستحيل. ترى من منهم سيقصي الآخر؟ ستجيب الحوادث المنـتـظرة على هذا السؤال.

أما السلطة الحاكمة في العراق تحت يافطة مجلس الحكم الانتقالي فقد بدأت مشكلاتها مع ميلادها، إذ جاءت خِلقتها مشوَّهة: إذ روعي في تشكيلها هدف تجزئة العراق وشرذمته بين فصائل عرقية ودينية ومذهبية وحزبية وقبلية، أي جسما هشا منخورا يحتضن التناقضات المنذرة بالتفجير الذاتي.

وليس بين هذه الفصائل قواسم مشتركة، حتى انها لم تستطع أن تـتفق على اختيار رئيس المجلس البالغ عدد أعضائه 25. وحُسم الأمر باختيار رئيس دوري لمدة شهر فقط بالتعاقب، حتى لا يبقى عضو منه لا يحظى بالرئاسة، وهو ما لم يتقدم له نظير في تاريخ الحكومات بالعالم.

تحفل الأنباء بلقطات إعلامية عما يعانيه هذا المجلس من متاعب وصعوبات: فهو منقسم على نفسه حيال خيار النظام الفيدرالي وطبيعته، والأسس التي يجب أن يقوم عليها: فالأكراد يريدون فيدرالية تشخص استقلال دولتهم التي يحلمون بها وسينقسم بسببها العراق إلى شقين: جزء كردي، وجزء عربي. والشيعة يريدون أن يأخذوا نصيب الأسد في توزيع مراكز الحكم بدعوى أنهم غالبية، علما بأنه لا توجد إحصاءات دقيقة تؤكد ذلك. ورجال السنة مستاؤون من معاملتهم كأقلية مهمشة، ومن النظر إليهم على أن عراق صدام كان يعتمد على سندهم وهذا غير صحيح، لأن هذا النظام كان سنده الوحيد هو قوة الحزب الوحيد حزب البعث: حزب الدولة والقوة العسكرية.

وآخر ما جاء في الأنباء عن العقلية الشاذة التي تتحكم في إدارة هذا المجلس الغريب هو توجهه إلى فصل موظفي حزب البعث السابق من وظائفهم، والاستغناء عن خدماتهم وهم يعدون بالملايين من دون وعي بما سيسببه هذا القرار من شرخ مجتمعي خطير متولد عن تدبير الإقصاء الجماعي لأعداد كبيرة من سواد الأمة سيُحرمون بطرد جماعي تعسفي من التمتع بحق المواطن في العمل الذي تضمنه الدساتير، وينزل بهم «عقاب أخذ الثأر» من عهد صدام على الطريقة القبلية، في حين أن عمل بعضهم في الوظائف أيام العهد البائد لا يمكن في منظور جميع القوانين أن يعتبر جريمة تستحق العقاب. هذا إلى أن الاستغناء عن بعضهم سيحرم الحكومة من الاستفادة من خبرتهم العلمية والإدارية والمهنية. وما أكثر ما يوجد في العراق من هذه الكفاءات التي صقـلتها التجربة وأهلتها لتدبير شئون الحكم والعراق في محنته الحاضرة أحوج ما يكون إليها

العدد 522 - الإثنين 09 فبراير 2004م الموافق 17 ذي الحجة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً