من خارج الطقوس وفي مغامرة من مغامراته الفكرية التي كما يقول، لا تخلو من المطبات والعثرات والمخاطر الأكاديمية والمعنوية، ألّف المفكر العربي التربوي نخلة وهبة كتابه الذي أطلقه قبل أيام في معرض بيروت للكتاب في دورته الستين. الكتاب بعنوان «تعليم الجهل»، حيث سعى من خلاله لوضع الأصبع على الوظائف الحقيقية للإجراءات والممارسات التي تجذّرت في الثقافة المدرسية، «فدنّست سمو الغاية التي طالما صنعت وقار المؤسسة التعليمية» حسب وصفه، كما أوضح بعض تفاصيل عملية اختطاف المدرسة من محيطها الطبيعي، وتبخيس أفعالها «التقليدية» والاحتفاظ بها رهينة حركة فكرية، تلبس ثوب الحداثة لتغطية وظائفها الحقيقية.
المدرسة متهمة
يقول وهبة إن المدرسة اليوم متّهمة بالتجهيل وبـ»تعليم الجهل» وغسل أدمغة الملتحقين بها داخل الحرم المدرسي بشكل أساسي، ولهذا سعى إلى تفكيك الآليات التي تستخدمها هذه المؤسسة التعليمية لتنفيذ عمليات التشريب، وتخريب الشعارات التربوية، بهدف تغطية التواءات القنوات التي يتم تمرير أفعال التجهيل عبرها. وأدى ذلك إلى خسارة المدرسة لاحتكارها مهمة التنشئة الوطنية-السياسية، إضافةً إلى مغاسل الأدمغة ذات الأهداف المتناقضة خارج جدران المدرسة، وهي «العائلة، الحزب، الأقران، الإعلام، الشارع...» التي تلغي مفاعيل بعضها البعض، ولهذا فهو يسعى إلى لفت نظر الأهل والمربين والمختصين الجدد في علوم التربية، بأن العملية التعليمية تتلقى الضربات المؤلمة والهدامة من جميع الجبهات، وحتى من الجبهة الداخلية، وإن المغالطات تحوّلت إلى بديهيات وثوابت، وأصبحت فوق التساؤل ولا تطالها إعادة النظر والمراجعة.
يرى وهبة أن الإضافة إلى وعي القارئ في كتابه تكمن في كيفية توظيف مكونات شعار «التربية الحديثة» من قبل الأهل والمدرسة معاً، عن قصد ودون قصد، في مسخِ الممارسة التعليمية إلى سمسرة تنجيح علنية، مؤكداً بأن انطباعاته تنطبق على كل المؤسسات التعليمية، وإنها جاءت حصيلة معاينات حقيقية متكررة في الحياة اليومية، بشأن كيفية استغلال شعارات التربية الحديثة لإفساد فعل التعليم.
ثقافة المساومة
في فصول القسم الثاني يتجوّل المؤلف بنا بين مفاهيم عدة تؤسس لمجادلته بشأن الإشكالية التي يطرحها وهي «تعليم الجهل»، فيتناول تمدد مفهوم المدرسة بشكل موجز وعبر مراحل تحولها المكاني، وتغير مفهومها من «تيار فكري» إلى «مؤسسة خدمات»، واختراع عملة خاصة للتداول الداخلي فيها وهي «العلامة»، التي سرعان ما دخلت بورصة العمل والبطالة وفرضت حضورها في سوق عقود التوظيف الخارجي، وفي مرحلة الانحطاط التربوي حيث ازدهرت بيوت التعليم الخاص التجاري، ليصل إلى نتيجة بأنه ومنذ اللحظة التي بدأت فيها المدارس تعد بضمان النجاح لزبائنها، بدأ العد العكسي لدخول عمليات التجهيل إلى حرم المدرسة/ المنهج والمكان. كما يناقش إشكالية التعاطي والاختلاف مع النظرية التربوية واجتزائها وما نتج عنه من شيوع ثقافة المساومة في مجتمعات بلدان العالم الثالث، والدعوة إلى «تفريد التعليم» -أي أن تكون الممارسة التربوية فرديةً مئة في المئة، وتُفصّل حسب مقاس كل تلميذ.
في هذا الصدد يضع لوماً عميقاً على دور المسئول التربوي في قبوله بمساومة أو إرضاء شريحة من أولياء أمور الطلبة المقصّرين. وهو هنا على ما يبدو يناقش «المدرسة الخاصة»، على ترفيع ابنه أو ابنته من ثقوب ضبابية نظام التقويم ورخاوة النظام الداخلي، والمساومة هنا تعتمد على نظام يسمى «الترفيع الآلي» الذي يجده حيلةً يدّعي أصحابها بأنها بنيت على تأمين العدالة باحترام الفروق الفردية عند التلاميذ، وتجنيب الضعيف الألم النفسي من إعادة الصف أو الرسوب. إنها عدالةٌ مشاعيةٌ ظالمةٌ ومزيفة. ويشدّد وهبة أنه في هذه الحالة يتم تبني العناوين الكبرى للنظرية التربوية بدون قناعة وإيمان راسخ بمضمونها الإجرائي، أو قد يُعجب بعض الأفراد ببعض الشعارات باسم مبادرات التطوير إلى بيئة ليست جاهزة لتبنّيها فعلياً، كما يحدث ببلدان العالم الثالث الحديثة الثراء، حيث تدعم وتعزّز ثقافة الامتيازات وتقاوم الحداثة عملياً على رغم مظاهر القيم الجديدة التي تحملها النظريات التربوية الحديثة، لاسيما تلك التي حاضنتها القيم الديمقراطية.
إن المتضرر الأول من هذا هو النظام التربوي عامة، والمعلم الذي يدفع بالطلبة إلى عدم احترام تعليماته، واحتقار سلطته، فيكون عمله طوال العام الدراسي قد ضُرب به عرض الحائط بنوعٍ من التحدي والانتصار للكسل واللامبالاة، وكسر معادلة الحقوق والواجبات.
التربية الحديثة متهمة
في الفصل الثالث يعترف التربوي نخلة بأنه وبعد أكثر من أربعين عاماً عمل فيها بالحقل التربوي، بات يشكّك في مفهوم التربية الحديثة، فيقول: «لا أدري أين ومتى نبت هذا المفهوم، وهل له وجود حقيقي أم أن وجوده افتراضي معنوي فقط»؟ ويضيف: «تبين لي بشكل لاواعٍ أنني كنت منجرفاً بتيار الموضة التربوية، ومأخوذاً بجاذبية إقناع الذات بالانتماء إلى حركة الحداثة عبر استعمال خطاب يتصدّره كلمة «حديثة». ويتساءل: هل يمكن بحث موضوع «الحداثة» في التربية دون التطرق إلى الخلفيات الفلسفية كالأخلاق والقيم السائدة التي توجه الفعل التربوي، حديثاً كان أو تقليدياً، وتمنح معنى ووزناً لمخرجات ذلك الفعل؟ مشيراً إلى أن مفهوم التربية الحديثة يفتقد الكيان والهوية، وهو لا يغطي مضموناً محدداً متفقاً عليه، بل يستوعب معظم الأمزجة التربوية بغض النظر عن خلفياتها، فصفة «الحداثة» التي ألصقت بمفردة «التربية» تحمل في ثناياها من بنات أفكار رجال الأعمال المستثمرين في مختلف جوانب التربية، وبالتالي فهي دخيلة على التربية، ومستعارة من عالم الموضة ومزروعة قسراً في الميدان التربوي، لهدف تسويقي تجاري ربحي بدرجة كبيرة.
إن هذا المفهوم الذي احتل الساحة التربوية منذ بدايات الربع الثاني من القرن العشرين، بقى مفتوحاً لاستقبال الكثير من الإضافات وعلى كل الاحتمالات والتجديد، وقد أسيء استخدام هذه الخاصية المفترض أن تكون إحدى إيجابياته، لتحوّله إلى مطية للقفز فوق العمل الجدي وتبرير الكسل.
في هذا الجزء، يخلص المفكر التربوي إلى أن هناك جرعة من المواقف والممارسات والشعارات الناقلة للحداثة، التي تصنف المؤسسة التعليمية فيها بمدارس التربية الحديثة، والتي غالباً ما تعدُ باتخاذ الخطوات والإجراءات اللازمة لضمان ترجمتها على أرض الواقع، سواءً من حيث تحقيق ديمقراطية التعليم والعدالة في التربية، ومبدأ تكافؤ فرص التعليم والتعليم للجميع... إلخ من المفاهيم التي احتلت ساحة المزايدة على الحداثة التربوية من منظور الديمقراطية، تعاني من مأزق عميق يكمن في قابلية تحقيق هذه الشعارات-المبادئ ولاستيعابها أكثر من تفسير وأكثر من ترجمة عملية، خصوصاً في تحقيق مفهوم «العدالة» الذي يثير بشأنه التساؤل:
-هل يمكن تحقيق العدل للجميع على طريقة التعليم للجميع؟ هل تحقيق العدالة للغالبية يمكن أن يتم بدون ظلم الأقلية؟ هل هناك علاقة بين الظلم والعدالة؟ علماً بأن أحد مفاعيل انعدام فعل العدل هو شرعنة الامتيازات وتفعيل سياسة الحظوة؟ فعندما يُظلم شخص ما، مادياً كان هذا الشخص أو معنوياً، لابد أن يستغل آخر هذا الحدث ويستخرج من الظلم حظوةً أو امتيازاً أو سلطةً أو مالاً أو... فالعدل كما الانحياز، لا يمكن أن يطبق مجاناً.
إن الإشكاليات التي ألقى بها المؤلف للقارئ بشأن شعار ومفهوم «التربية الحديثة» وبتأثير من تداخله بمفاهيم العلوم الإنسانية الأخرى، وما آلت إليه المؤسسة التعليمية، قد أوصلته بعد طول تجربة، إلى أن يوجّه أصابع الاتهام للمدرسة بممارسة التجهيل عبر آليات «تعليم الجهل»، كيف؟ هذا ما سنتابعه في الجزء الثاني من هذا المقال.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 5212 - الثلثاء 13 ديسمبر 2016م الموافق 13 ربيع الاول 1438هـ
اختي العزيزه،،، تعليم الجهل يبدء من البيت والمآتم والمسجد ،،، وليس من المدرسة،،، لانهم نفسهم بيصبحون تلاميذ ومدرسين ومدراء