في العام 1817 واصل الرئيس الأميركي جيمس ماديسون «جزءًا» من حروب بلاده على السكان الأصليين في السهوب. وبعد 16 عاماً شنَّ رئيس أميركي هو أندرو جاكسون حرباً على نيكاراغوا، وبعد عامين على البيرو. وفي العام 1846 شنَّ الرئيس جيمس بوك حرباً على المكسيك ليقتطع منطقة تكساس الغنية بالنفط والزراعة والتي مساحتها ضعف مساحة اليابان وألمانيا ويضمها للولايات المتحدة لتصبح الولاية الأكبر بعد ألاسكا.
دعونا نكمل. بعد عامين من الحملة على المكسيك، شنَّ الرئيس جيمس حربه الثانية ليقتطع نيومكسيكو وكاليفورنيا من المكسيك أيضاً. وفي العام 1854 شنّ الرئيس فرانكلين بيرس الحرب الثانية على نيكاراغوا. وبعد عام شنّ حرباً على الأورغواي وبنما، وبعد عامين شنّ الحرب الثالثة على نيكاراغوا. وفي العام 1894 شنّ الرئيس جروفر كليفلاند الحرب الرابعة على نيكاراغوا.
في الأعوام 1914 و1915 و1916، شنّ الرئيس الأميركي وودرو ويلسون حربَيْن على هاييتي وواحدة على الدومينيكان. وبين عامَيْ 1950 و1952 تدخّل الأميركيون عسكرياً في كوبا ودبروا انقلاباً عسكرياً في إيران خلال عهد الرئيس هاري ترومان. أما جون كينيدي فقد تدخل في كوبا عام 1962 وليندون جونسون في فيتنام عام 1965. وفي العام 1998 تدخل بيل كلينتون عسكرياً في العراق.
تعمَّدت أن أسرد تلك الحروب حصراً كي أضع إطار الفكرة. فهذه الحروب جميعها شنها رؤساء أميركيون «ديمقراطيون» يترمّز حزبهم بالحمار (كشعار غير رسمي) بينما تكفل بالحروب الـ 16 الأخرى رؤساء جمهوريون (دون حساب الحروب غير المفوّضة). ولا نعلم ما إذا افترضنا أن مَنْ كان يقود أميركا في العام 1873 ليس يوليسيس جرانت وإنما رئيس أميركي من الديمقراطيين فهل كان سيمتنع عن شنّ الحرب على كولومبيا، وكذلك بقية الحروب في هاييتي وتشيلي وهندوراس والسلفادور وغواتيمالا وكمبوديا وتشيلي وبنما (مرة ثانية) وغيرها أيام رونالد ريغان الذي هيمن اسمه على عقد الثمانينات من القرن الماضي.
الحقيقة، أن هذا الموضوع جدير بالتأمل فعلاً. ففي غمرة الحوادث التي يشهدها العالم خلال هذه الفترة لم يعد المرء قادرا على تفكيك المفاهيم السياسية والعسكرية كما يجب. فالتدخل الأميركي الواضح في العراق سنة 2003 بانَ بشكل أوضح من تدخل أميركا في سورية سنة 2011. الفارق أن التدخل الأول كان بقعقعة السلاح المباشر، والثاني عبر أطراف في الداخل والخارج تُذْكِيه، لكن النتيجة واحدة، وهي تدمير الأرض والإنسان في سبيل مصالح أكبر من ذلك بكثير.
منطقة بحر البلطيق هي تاريخياً محل صراع مكتوم بين حلف الناتو وبين الروس، لكن، وخلال عهد الرئيس باراك أوباما (الديمقراطي) شَهِدَت ما يُشبه الحرب الباردة التي تكاد تدخل في نزاع مسلح. والجميع يعرف أن النفوذ الأميركي في الناتو لا حدّ له، وأن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) ليست قادرة على أن تكبح جموح واشنطن في تلك المنطقة. وهو ما ظهر في العقيدة العسكرية الأميركية المعلنة، التي زادت من دفع الناتو للصِّدام مع روسيا، ما يجعل خيارات أوربا ضعيفة.
هذا الأمر تكرر في غرب آسيا وبالتحديد على الحدود الغربية الشمالية للبحر الأبيض المتوسط حين أسقِطَت الطائرة الروسية Su-24 بواسطة صواريخ من طائرة تركية من طراز F-16، بتوجيه من مركز العمليات التي تضطلع فيه واشنطن بدور محوري لإدارة الأزمة في سورية. وهو الحادث الذي جعل الناتو في قِبَال قوة روسيا المتعاظمة في منطقة الجنوب. بل وجعل تركيا تتحمّل وحدها مسئولية ما جرى، وعدم تحريك أيّ إجراء لصالحها على الرغم من أنها عضو في حلف شمال الأطلسي.
توسّع حلف الناتو باتجاه الشرق وتحديداً صوب الحدود مع روسيا وخطة الدروع الصاروخية في أوروبا واقتراب «البنى التحتية العسكرية لدول حلف الناتو» من الحدود الروسية بحسب التعبير الروسي جعل من عقيدة موسكو العسكرية تندفع باتجاه الغرب في عملية استباقية. وهو ما يهدد الدول الاسكندنافية ودول أوربا الشرقية، التي تدفع ثمناً باهظاً نظير ذلك. وهنا المشكلة. كل هذه الأمور تفاقمت في ظل رئيس أميركي ديمقراطي، تعزز وجوده في البيت الأبيض مدة 8 أعوام.
ذات الأمر يجري اليوم في بحر الصين الجنوبي، وإمكانية الصِّدام هناك. بل التقارير تشير في بعضها إلى أن الانسحاب الأميركي التدريجي من الخليج العربي هو لإعادة تموضع عسكري في الشرق الأدنى. وهذا النوع من السياسة هو أبعد من «دبلوماسية قاسية» لأنه أصلاً يحاكي أوضاعاً عسكرية صرفة، سواء عبر التواجد على الجزر العائمة أو في تسيير قطع حربية في بحار إقليمية. وهي أنواع من حروب لها صفة مختلفة لكن لا تُخرجها من كونها أعمالاً عسكرية صرفة.
بالتأكيد نحن لا نقول بأنه لا توجد هناك فروقات بين التوجهات الجمهورية وتلك المتعلقة بالديمقراطيين، ولكن سِجَّل هؤلاء يدل على طبيعة الخيارات والقرارات التي أصدرها الديمقراطيون عندما كانوا في البيت الأبيض وفي فترات ممتدة ومتباعدة، ما يدل على طبيعة التفكير السياسي، وعلاقته بالقرارات العسكرية. وربما يتفاوت الديمقراطيون أنفسهم في منسوب الدخول في الصراعات فقط وليس في الابتعاد عنها، إلى الحد الذي جعلت شخصا كـ ترامب محسوب على الجمهوريين لأن ينتقدهم في تورّطهم في صراعات عسكرية في العالم كله.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5208 - الجمعة 09 ديسمبر 2016م الموافق 09 ربيع الاول 1438هـ
روووووعةتذكرني بعلي شريعتي...بمحمد صادق الحسيني