قبل 444 يوماً قرأت خبراً مثيراً. الخبر يشير إلى أنَّ شركة دواء أميركية وهي «تيرنغ فارماكيوتيكال» أعلنت أنها رَفَعَت سعر دواء «دارابريم» 5000 في المئة! وقد برَّرت الشركة (وعبر مديرها التنفيذي مارتن شيكريلي آنذاك) بطريقة غريبة على تلك الخطوة قائلة إنها هَدَفَت من تلك الزيادة إلى الإنفاق على أبحاث علمية ستجريها الشركة تستهدف ابتكار أدوية جديدة أكثر فاعلية.
العجيب في الأمر أنَّ مارتن شيكريلي صرّح، خلال مقابلة أجرتها معه قناة «بولوبيرغ» بأن شركته تحتاج «إلى تحقيق أرباح من هذا العقار، فقد كانت الشركة المالكة لحقوق إنتاجه توزعه مجاناً تقريباً»، ساخراً، وعبر تغريدة له على تويتر، من أولئك المعترضين على رفع سعره 5000 في المئة، واصفاً إياهم بالحمقى!
لم تكترث الشركة (التي لم تواجه منافسين لإنتاج ذلك الدواء) بالنداءات التي أطلقتها عدَّة جهات معنية بما فيها الجمعية الأميركية للأمراض المعدية، وجمعية علاج الإيدز بضرورة تراجعها عن ذلك القرار؛ كونه غير منطقي. بل حتى هيلاري كلينتون وخلال ترشّحها الرئاسي هدّدت بأنها ستتخذ إجراءات ضد شركة «تيرنغ فارماكيوتيكال» واصفة خطوتها تلك بأنها «تحرّك جائر».
الحقيقة أنني لم أدقِّق كثيراً في أهمية دواء «دارابريم» إلاّ قبل أيّام وعندما حدث تطور جديد في صناعته سأتحدث عنه لاحقاً. لكن وبعد البحث تبيَّن أنَّ هذا الدواء الذي يُصنع منذ أزيد من ستة عقود هو دواء متعدد الأغراض. فهو أحد مضادات مرض الملاريا، وأيضاً للوقاية من داء المقوَّسات، وعلاج الالتهاب بطفيلي التوكسوبلازموسيس، والذي له علاقة بمرض ضعف المناعة ونقصها المكتسب (الإيدز). لذلك يعتبر هذا الدواء مهمّاً، ومحل طلب من قِبَل مئات الملايين من البشر.
أعود إلى التطور الجديد التي صاحَب إنتاج ذلك الدواء. فبعد عام وثلاثة أشهر تقريباً من تلك «الزيادة الجنونيَّة» التي قامت بها شركة «فارماكيوتيكال» قام ستة طلاب استراليون في مدرسة سيدني جرامر مع مُعلِّمهم، وإشراف من جامعة سيدني وكونسرتيوم أوبن سورس ملاريا بعمل جبَّار حين استطاعوا إنتاج الدواء ذاته (دارابريم) ولكن بسعر دولارين فقط، مقارنة بسعره السابق الذي وصل إلى 750 دولاراً، بعد أن كان في حدود 13 دولاراً ونصف الدولار. أي أنهم أنزلوه حتى عن سعره الأصلي.
وإلى جانب هذا الإنجاز المفرح، كان هناك موقف لكنه مُستغرَب من مارتن شيكريلي الذي كان رئيساً لشركة «فارماكيوتيكال». فبعد أن كان يسخر من المعترضين على زيادة السعر 5000 في المئة، ويعتبرهم حمقى، بثّ مقطعاً مصوراً على اليوتيوب قبل أيام وبعد أن أعلن أولئك الطلاب الستة مُنجَزهم قال فيه: «هؤلاء الطلاب الأستراليون دليل على أنَّ اقتصاد القرن الحادي والعشرين سيحل مشاكل المعاناة البشرية من خلال العلم والتكنولوجيا».
ثم أضاف «يجب علينا أن نهنئ هؤلاء الطلاب باهتمامهم بالكيمياء، وأنا متحمّس جدّاً بشأن ما سيأتي في هذا القرن الحادي والعشرين الذي يركز على العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات». بالطبع هذا موقف غريب فعلاً من الرجل! هل لأنه لم يعد على رأس الشركة السابقة، أم أنه راجَعَ قناعاته والموقف من تلك الزيادة الجشعة! لا نعلم، لكن الأمر فيه نظر وتأمّل.
الحقيقة أنَّ الكثير من شركات الدواء العالمية لا تقل «توحشاً» عن شركات السلاح التي تشحن الساحات بالدّم. هي تريد أن تربح وتربح وتضاعف من أموالها ما أمكن. تلك الأموال الطائلة والمؤثرة في الاقتصاديات العالمية. والجميع يتذكر أنه وقبل شهر تقريباً من الآن تراجعت الأسهم الأوروبية بعد أنْ تأثَّرت بهبوط شركات صناعة الأدوية حينما هُدِّدت من الكونغرس الأميركي بضرورة فتح تحقيق معها من قِبَل هيئات مكافحة الاحتكار بشأن تلاعبها بالأسعار.
المرء يتساءل: ترى ما هي علاقة حجم إنفاق شركة «فايزر» الأميركية الفعلية وبين قيمتها السوقية التي بلغت قبل عامين 203 مليارات دولار، وكيف راكمت أصولاً بلغت 172 مليار دولار إن لم تكن مبيعاتها زادت على الـ 56 مليار دولار في عام واحد، الله يعلم كيف كان الربح فيها وما هو مقداره. أيضاً وعبر التساؤل ذاته: ما هي حقيقة إنفاق شركة «نوفارتس» للأدوية على عملية التصنيع الفعلية، وبين قيمتها البالغة 227 مليار دولار، وكيف صنعت لنفسها أصولاً بحجم 126 مليار دولار!
هذا الأمر ينسحب على «سانوفي» الفرنسية و»روش» السويسرية و»ميرك» الأميركية و»جلاسكو» البريطانية و»أسترازينكا» الاسترالية والتي يبلغ مجموع أصولها 430 مليار دولار، ومبيعاتها إلى 203 مليارات دولار قبل سنتين.
الملفت في الأمر أن الزيادات التي تحصل في الأدوية التي تزيد على الثمانية آلاف نوع، لا تكون إلاّ في الأصناف المتعلقة بالأمراض المستعصية، كالسرطانات والصرع والإيدز، وغيرها من الأدوية، والتي يبتلي بها الملايين من البشر! وهو أعلى درجات الأنانية والاستغلال.
هذه الشركات التي تستثري من لحوم الفقراء والبسطاء الممدَّدين على وجه هذه الأرض، تتحمّل وزر الجانب المخفي من عمليات «الإفقار» وابتزاز المرضى في حياتهم، وكأنهم أسرى في سجونها تجهز عليهم. وهي بذلك تقوم بجرم بيّن، تستحق المحاسبة عليه وخصوصاً أنه متعلق بأرواح البشر في صورتهم الأضعف.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5206 - الأربعاء 07 ديسمبر 2016م الموافق 07 ربيع الاول 1438هـ
احسنت، انه موضوع مهم وحيوي لايدخل ساحته الصحفيون والكتّاب (على اهميته) الا ماندر
ماذا تتوقع من الرأس ماليه الجشعه؟
الجشع
وشركات الادوية تعلم بان هذه الأمراض ليست مستعصية وبامكانها تصنيع ادوية للتخلص من هذه الأمراض وبجرعات محدودة للشفاء التام. ولكن الطمع والجشع لسلب الفقراء حالها مع حال البلدان الفقيرة في الأخلاق والثقة فيما بينها وبين جيرانها وتشتري السلاح من قوت شعوبها
شكرا محمد على المقال الممتاز ولكن حاولت اسقاطه هنا على بلدنا او منطقتنا فلم استطع.
لأننا لا نصنع شيئا
ليس كل موضوع له إسقاطات على مكان فهي ليست نصوصا دينية كي يترتب عليها اثر وحكم. هذه قضايا عالمية نقرأها للفائدة
الانتاج والاستثمار في هذه الشركات يحتاج مستثمرين جريئين ، وتكاليف بحوث وتطوير كبيرة وعلى فترة طويلة ، فاذا لم تكن الارباح مجزية لن تستطيع الشركات توظيف كفاءات واشخاص مميزين للحصول على اختراعات كثيرة او الحصول على مستثمرين مستعدين لضخ رؤوس اموال فيها .
وبالنسبة للارقام المنشورة يكفينا لمحة عن شركات الالكترونيات الكبرى ابل وسامسونج مبيعاتهم 213 مليار و 174 مليار و احدى شركات الملابس الرياضية مبيعاتها 32.5 مليار دولار. وارباح الشركات هذه ناتجة عن مبيعات كماليات وليست ضروريات مثل الادوية
مقال رائع أستاذ محمد. للأسف الشديد أغلب شركات الأدوية تنظر الى الربحية ولا يهمها من يحتاج الى الدواء وقدرته الشرائية. وأغلب مراكز البحوث العالمية تعتمد على تمويل هذه الشركات. واغلب الأدوية البيولوجية الحديثة تكلف اكثر من عشرين ألف دولار للمريض الواحد في السنة .
د. حسين جمعه
موضوع ممتاز , سلمت يمينك استاذ