لا يمكن التنبؤ بأي طارئ عندما تكون الأمور جيدة وعلى خير ما يرام، ولكن عندما يتعلق الأمر بأشياء خارجة عن إرادة البشر أو ما يعرف بعمل الطبيعة كالعواصف الشديدة والأمطار الغزيرة والمصحوبة برياح متربة فإن الأمر مختلف، فقد وجد أن لهذه المتغيرات المناخية تأثيراً مباشراً على الكثير من الحوادث المرورية وصولًا إلى غرق السفن في البحار إلا أنه يمكن تفادي بعض الحوادث ككبح جماح السيارة أو إبعادها عن الطريق العام لتفادي اصطدام وشيك اعتماداً على مهارة السائق، إجمالاً هذه الحوادث خطرة وربما مميتة وخاصة إذا صاحبتها قيادة جنونية، إضافة إلى جهل السائق بظروف الشارع، إلا أنه على رغم فداحة الحوادث الأرضية يحظى بعض ركاب المقاعد الخلفية بضرر أقل وبالمثل الذين يتقيدون بشروط السلامة كلبس الحزام، وأكبر دليل الحادث المروع الذي أودي بحياة ديانا وعشيقها دودي الفايد إذ استطاع السائق أن ينجو بأعجوبة. هذه الاحتياطات للأسف الشديد عديمة الجدوى في معظم حوادث الطائرات إذ من النادر جداً أن ينجو أي من الركاب عندما تهوي الطائرة من علوٍ شاهق بسبب خلل ما وترتطم بالأرض.
منذ أيام عرض فيلم سينمائي باسم «سولي» وهو مستوحى من قصة حقيقية لحادث طائرة وضعت الطيار سولي في مأزق حرج بعد دقائق من الإقلاع، وتفيد القصة بأنه في يوم 15 يناير/ كانون الثاني 2009 أقلعت الطائرة «يو أس أميركان» رحلة رقم 1549 في رحلة داخلية من مطار «لا كارديا» في جلسي عند الساعة 3.26 بعد الظهر وبعد عدة دقائق من الإقلاع وتحديدًا الساعة 3.31 وعلى ارتفاع 2800 قدم ولم تتجاوز الطائرة مدرج المطار بكثير تفاجأ الطيار بسرب طيور غير متوقع أصاب محركي الطائرة بخلل جسيم توقفا على إثرها عن العمل في الحال مما أوقع الطيار في محنة شديدة استدعى على إثرها غرفة التحكم في المطار الذين طلبوا منه الرجوع إلى مطار «لا كارديا». لكن الطيار وبعد أن أجرى بعض الحسابات الدقيقة لقدرة الطائرة على المناورة والعودة للمطار رأى أنه من غير الممكن عمل ذلك في هذه الأثناء عرضت عليه غرفة التحكم التوجه إلى مطار آخر قريب هو مطار « تيتدبورو» ولكن حساباته أظهرت استحالة الهبوط في المطار الآخر أيضاً في هذه الأثناء لاح أمامه ملاذ أخير غير متوقع وكان نهر هدسون فأخبر غرفة التحكم نيته إنزال الطائرة في النهر وبعد ثوانٍ لم تتجاوز الدقيقة حزم الطيار أمره وطلب من الركاب أن يعدوا أنفسهم لهبوط اضطراري وانزل الطائرة في النهر بسلام.
لقد ساعد على إنقاذ الركاب عوامل عديدة أولها أن الطائرة لم تنزل في طريق عام كان من الممكن أن تسبب إشغالاً للطريق العام وإحداث تلفيات شديدة في الشارع مما يعوق وصول فرق الإنقاذ في الوقت المناسب أو ربما تسبب كارثة، الأمر الآخر أن الهبوط كان في وضح النهار وفي ممر مائي شبه خالٍ من حركة السفن والناقلات مما سهل على فرق الإنقاذ البحرية سرعة الوصول إلى الطائرة المنكوبة وإنقاذ المسافرين كافة حتى أن الطيار والمضيفين قاموا بعمل جبار وفي أقل من 26 دقيقة حيث استطاعوا إخراج جميع الركاب بسلام قبل أن تغرق الطائرة وتستقر في قاع النهر.
كان من الطبيعي بعد المجهود الجبار الذي قام به الطيار أن يلمع نجمه ويعلو صيته على كل القنوات الإخبارية في أميركا والعالم في ذلك اليوم حتى بات من المشاهير وهذا أمر طبيعي لكل من يقدم خدمة إنسانية للناس فكيف الحال والأمر بتحويل وجهة طائرة شبه معطوبة إلى منطقة آمنة وزد عليها أن تم إنقاذ جميع الركاب وكل ذلك تم بعمل وتصرف شخصي فرضته عليه ظروف الطائرة والمصلحة العامة وعلى متنها حياة 155 راكباً.
هذا الحدث كان له وقع خاص في قلوب الناس وخاصة الأميركان بحكم أنهم شعب عاطفي إلا أن الأمر كان له رؤية مختلفة تماماً من وجهة نظر شركة الطيران إذ ليس من المسلم به تطابق الوجهة الإنسانية التي أثلجت قلوب الملايين مع الوجهة القانونية التي كانت ترى في عدم امتثال الطيار لتعليمات غرفة التحكم والعودة بالطائرة إلي مدرج مطار «لا كارديا» أو مطار «تيتدبورو» جنحة كبيرة وعليه قامت أجهزه التحقيقات في مجلس السلامة الوطنية بدراسة ملابسات الحادث من جوانب مختلفة وانتهوا إلى أن الطيار ومساعده قاما بعمل مخالف للأنظمة وعليه يجب أن يخضعا أمام لجنة التحقيق للاستماع إلى المحاكي الصوتي الآلي الذي أظهر بوضوح أنه ومنذ اللحظة الأولى قام الطيار بالانعطاف والعودة إلى المطار سالماً.
وعندما واجهوا سولي بهذه المعلومات شكك في صحتها فأظهروا له المحاكي الصوتي الآخر الذي أنزل الطائرة بسلام في مطار آخر هو مطار «تيتدبورو» عندها صمت الطيار للحظة ثم قال: هناك أمر لم يؤخذ في الحسبان وهو العامل البشري، إذ منذ لحظة حصول الحادث يحتاج الطيار لفحص الأجهزة والعدادات التي أمامه والتشاور مع مساعده حول ما عنده من قراءة لمراجعة الحالة من كل الجوانب ومحاولة الوصول إلى قرار مبني على يقين بما يجب عمله حتى لحظة قراره الأخير وهو إنزال الطائرة في النهر هذا الأمر أخذ منه قرابة الـ 30 ثانية لم تؤخذ في الحسبان عندما أجرى عمل المحاكي الصوتي! أجل 30 ثانية إذ منذ لحظة الحادث عاد الطيار في المحاكي الصوتي إلى المطار في الحال بمعني أن الـ 30 ثانية هي فاصل زمني حاسم غيّر مجرى الرحلة تماماً.
ثم سأل سولي لجنة التحقيق هل الأمر مختلف بين المحاكي الصوتي والحقيقة، فالطيار الذي يجلس خلف مقود الطائرة في المحاكي الصوتي هادئ الأعصاب ويعرف مسبقاً ما هي ظروف الحادث وبما سيواجهه وعليه فهو مستعد مسبقاً لردة الفعل المطلوبة بدليل أنه أعاد الطائرة إلى المدرج في الحال من دون الانتظار والمشاورة وأمر آخر عندما سأل الطيار اللجنة بعد كم محاولة استطاع المحاكي الصوتي الأول النجاح والعودة للمطار؟ أجابوا: 15 محاولة! هذا وهو عالم مسبقاً بكل ظروف الحادث وبالمثل عند السؤال عن المحاكي الصوتي الثاني وكان الجواب: 35 محاولة! عندها طلب سولي أن يضيفوا الـ 30 ثانية في المحاكي الصوتي الأول وأعيدت المحاولة بعد الإضافة وكانت النتيجة الارتطام بالمباني ولم يسلم الأمر بالنسبة للمحاكي الصوتي الآخر إذ بعد إضافة الـ 30 ثانية تعثر الأخير وارتطم بالأرض. عندها طلب سولي وأمام لجنة التحقيق أن يعيد ما حصل في قمرة القيادة ومحاولة العودة للمطار فكانت النتيجة كارثية. لست في حاجة أن أخبركم كم كان امتنان لجنة التحقيق للعملية العظيمة التي أنجزها الطيار فقال: لست وحدي أنا بل أنا ومساعدي والمضيفون وبالطبع أجهزة الإنقاذ البحرية فلا يجوز أن ينسب كل هذا الفضل لي وحدي.
هذه المسألة تعطينا فكرة جيدة عما يجري في قمرة القيادة في لحظات الذروة عندما يشعر الطيار أن لا مجال لإيقاف الطائرة وفحص الخلل وهو على ارتفاع شاهق في الهواء كذلك يلعب الهلع دوراً رئيسياً في عمل ضبابية على تفكير الطيار وقراره وهو في آخر الأمر وإن كان ملماً بكل الأمور المتعلقة بإمكانية إصلاح بعض الأعطال غير المتوقعة يبقى بشراً ذا إمكانيات نفسية محدودة في مواجهة الخوف من يدري إذ ربما يكون غير مؤهل نفسياً لمواجهة هذه الأمور الطارئة المتشابكة وهاجس إنزال الطائرة في أقرب مدرج بسلام، فكيف الأمر إذا كان على ارتفاع 30 ألف قدم عن سطح المحيط وأقرب مطار يبعد بضع ساعات كما حدث في الطائرة الماليزية المفقودة.
عموماً، كل المؤشرات في الطائرة بشكل عام تشدد على بقائها في مسارها المرسوم محكومة بأربع قوى تبقيها محلقة في الهواء وتحول دون سقوطها وهي قوة المحركات لسحب الهواء تقابلها قوة خروج الهواء من المحرك والذي يعطى الطائرة الدفع اللازم للسرعة المطلوبة اللازمة للتحليق يقابل تلك القوتين قوتان أخيرتان هما الرفع ووزن الطائرة وأي عطل يخل بنظام هذه القوى الأربعة يسبب مشكلة إذا لم تحل سريعاً تكون الغلبة فيها من دون شك للجاذبية الأرضية.
ويبقى أمر واحد!
أظهر المحاكي الصوتي كما أسلفت عدم نجاح العودة إلى مطار «لا كارديا» إلا بعد 15 محاولة وبالمثل مطار «تيتدبورو» بعد 35 محاولة والسؤال الذي يفرض نفسه وربما غاب عن أذهان كثير من المشاهدين وربما تغاضى مخرج الفيلم عن إظهاره بشكل جلي هو: إذا كان الطيار في المحاكي الصوتي الأول لم يستطع العودة إلا بعد 15 محاولة فهل كان الطيار سولي يملك الوقت الكافي لمحاولة ثانية في طائرة شبة منكوبة؟ وليس 15 أو 35؟ بمعني أن: كلتا محاولتي المحاكي الصوتي حتى قبل إضافة الـ 30 ثانية محكوم عليهما بالفشل الذريع وأن الخيار الذي اتخذه الطيار كان الملاذ الأخير والأصوب أمنياً.
وعليه إذا كنا نسمى القدرة والإمكانيات المتاحة في الطائرة للحيلولة دون حدوث أعطال بالمعجزة؟ فماذا نسمى مساحة الحرية والوقت المتاحين للطيار لأخذ قرار شخصي وإنقاذ الركاب إذا لزم الأمر؟ وهو أمر مرشح للحدوث في أية رحلة، المدهش أن نسبة حوادث الطائرات بالقياس لعدد آلاف الطائرات التي تقلع وتهبط على مدار الساعة دون حدها الأدنى أو تكاد تكون صفراً! أما بالقياس إلى نسبة حوادث السيارات والعربات على الأرض فليس هناك وجه مقارنة على الإطلاق.
إن أجمل ما في الفيلم بحق هو قدرة المخرج «كلينت إيستوود» على وضع الممثل «توم هانكس» خلف مقود الطائرة ليضيف لنا جديداً من إبداعاته التي عودنا عليها دائماً، تري أية رواية تستوعب وصفاً دقيقاً لقرار جبار كالذي أقدم عليه الطيار سولي وتختزله في زمن قياسي قدره 30 ثانية!
إقرأ أيضا لـ "سيدعدنان الموسوي"العدد 5200 - الخميس 01 ديسمبر 2016م الموافق 01 ربيع الاول 1438هـ
ردا على الزائر 1
المحاكي هو ما يعرف ب simulation
وهو جهار آلي ضخم يعاد فيه صياغة رحلات الطائرات بناء على المحادثات الصوتية بين الطيار وغرفة المراقبة في المطار ويتم تزويد المحاكي بالمعلومات والمحادثات التي تحولت الى افعال وقرارات وعند الحوادث تؤخد هذه المحادثات من الصندوق الاسود بعد انتشاله من موقع الحادث.
زائر 1
راجعت محرك البحث عن معنى " المحاكي الصوتي " ولم احظى باجابة معقولة استطيع ربطها بهذا الموضوع
شكرا سيد عدنان مقال رائع نتمنى المزيد
عفوا ولكن ما هو " المحاكي الصوتي " وما وظيفته ؟