استيقظ من نومه بعد صراع طويل مع جسده الذي كان يزن أحجارًا وجبالًا. هذا ما شعَره وهو يحاول أن يحرّض ساقيه على ملامسة الأرض الصلبة، والانطلاق لفتح الستائر التي لا يستطيع تفرقة لونها. قيل له بأنها كدم الغزال، مخملية وناعمة الملمس، ولكن كل ما يعرفه عن تلك الستائر بأنها رمادية غامقة، متفانية في عدم السماح بدخول ضوء الشمس. وما الفائدة إن دخل ضوء الشمس أساسًا؟! ضوء الشمس من المحرّمات على عينيه، فمجرد تسلُّل القليل من هذا الضوء إلى ساحة هذه الغرفة المكفهرّة بملامحها لن يهب لعينيه سوى الوجع!
حاول رفع ساقيه المحنّطتين من جديد، فتحرّكتا على رغم تخشّبهما واحدة تلو الأخرى حتى أصبح ساندًا ثقل جسده التام عليهما. فكّر إن كان عليه توضيب فراشه، ولكنه شعر بعبثية الأمر. ما الفائدة إن كان سيعيد ترتيب هذا الفراش الذي سيحتويه بعد ساعات قليلة من الظلام والعزلة؟! حاول أن يجبر نفسه على ترتيبه، ولكنه أدرك تخشّب ذراعيه، فأعرض عن هذه المهمّة. توجّه نحو الستائر محاولًا خداع أشعة الشمس القوية. فتحها ببطء شديد وهو مغمض العينين، خائف من الألم، حتى أدرك بعد أن فتح الستائر كلها بأن الشمس قد غابت مخلفة ظلامًا دون ضوء. حتى القمر انقرض ضوؤه في تلك اللحظة. أراد أن يبكي، فتذكّر بأنه "رجل" لم يترك له مجالًا ليمارس هذه المهنة التي "تجيدها النساء فقط"! ولكن، إن بكى، أليس ذلك أفضل من ترك عينيه دون استخدام؟!
ما الفائدة من أن ترى العالم بأسره دون ألوان، دون أجهزة قياس تستطيع تحسّس درجات دفء كل لون؟ ما الفائدة من العيش في عالم تدرج ألوانه بين الرمادي الفاتح والغامق، لا تستطيع فيه رؤية ستائرك الخلّابة التي يراها الجميع كدم الغزال؟ ألا تعرف ما لون طعامك لتشتهيه وتمتدح مَنْ قام بطهيه؟ ما الفائدة من عالم لك فيه عينان حين يراك الآخرون، وعلى رغم ذلك، لا فائدة منهما؟ كأن تعطى مصباحًا للزينة لا للضوء، كأن تعطى رئة وتعيش على سطح القمر دون هواء تستطيع تنفسه؟!
قالوا له بأن العلم نعمة، ولكن جهله السابق بأنه يختلف عن الآخرين كان هو النعمة حقًا. كانت نعمة ألّا يدرك بأن غيره يستطيع رؤية الشمس الساطعة دون أن يشعر بأن عيناه ستختزقان، بأن الزهور لها ألوان غير الرمادي، بأن العالم ليس فيلمًا من لونين يختلطان بكآبة ويعذبان بقية حواسه! كان في جهله يشعر بالامتنان لكل شيء، حتى إذا ما أصابته نقمة العلم بمرضه، أدرك تعاسته في أن يبدو لغيره صحيح العينين، ولا شيء صحيحاً فيهما على رغم ذلك!
بدأ يضرب زجاج النافذة بكفّه. أراد أن يكسرها فيرى الدم الذي يتدفق منها، علّه يرى لون الستائر أخيرًا! لكن دمه تدفّق دون ألوان، أسود كحبر لطّخه طفل على ورقة بإهمال. "لا فائدة!" صرخ في داخله وهو يشعر باليأس مطبقًا حبله حول عنقه بعنف. توجّه نحو درج خزنته، بحث عن ضمّاد. وقع نظره على مقص، فراودته فكرة مجنونة. ماذا لو تخلص من عينيه عديمتي الفائدة؟! ماذا لو جعل لجرحه أثرًا حقيقيًا، فيعلمون بأنه ليس كالبقية، بأنه لا يشبههم؟! أمسك بالمقص بكف مرتعشة، قربها من وجهه. سيفعلها... سيتخلص من أسئلتهم، من التبرير، من شرح أشياء تُرضي فضولهم، من وصفاتهم وتجاربهم الكثيرة عليه. سيتخلّص من كل هذا!
فجأة، سمع أحدًا يلج الغرفة. قال له الصوت الرقيق: "لمَ فتحت الستائر الرمادية؟". التفت إليها، فارتمى المقص من بين كفيه.