أجلسُ الآن وحيدةً على الكرسيِّ في شرفة المنزل المطلّةِ على حديقة الحيّ، في هذه السّاعة المتأخّرة من الّليل وهذا الفراغ المحيط بذاكرتي، لا شيء يمكنه أن ينقذني من هذه البئر وقد أوغلت في عمقها باحثةً عن شيءٍ لم أدرك ما هو، ربّما أوقعتُ فيها خاتماً كأيّة أسطورة، أو أوقعتُ فيها شيئاً من ذاكرتي، أو من مستقبلي.
فجأةً أجد بئراً حقيقية أسفل الشّرفة.
يراودني شعور غريبٌ كأن شيئاً ما يقول لي: " انزلي".
أسمع أصواتاً متداخلةً في رأسي:
موسيقى، قذائف، ضحكات أطفال... أصوات سيارات، صراخ ثكالى، أصوات رصاص، قلمٌ يقع عن طاولة، موسيقى، انفجارات، سيارات إسعاف، ضحكات أطفال، موسيقى، ضحكات أطفال انزلي... انزلي".
ثم أقفز داخل البئر، لأجدَ نفسي في مدينة أشعر أنني أعرفها.
في الشارع طفلٌ يلهو على دراجته ذات العجلات الأربع، هذا الحيّ مألوف جداً، يرتطم الطّفل بالرّصيف ليقع عن دراجته ثم يبكي ويصرخ: "ماما، ماما"، ثم يهرع إلى منزله، ولكنّ هذا المنزل منزلي، الحديقة أمامه، الباب، اسم عائلتي المكتوب على جرس المنزل (أين أنا؟ من يسكن الآن في منزلي؟ من هذه العائلة)؟
يدخل الطّفل، وأبقى أنا خارجاً، ثم أسمع صوتاً أنثوياً يخاطب الطّفل:
"أوووه لا تقلق يا عزيزي، جرحٌ صغيرٌ ستشفى منه بسرعة... (لا تَخَفْ يا روح ماما)".
أحاول جاهدةً الاقتراب من باب المنزل، لكنّ المنزل يبتعد عنّي كلما اقتربت أكثر.
يخرج الآن الطّفل نفسه وقد كَبُر قليلاً حاملاً على ظهره حقيبته المدرسية، يقف عند الباب ويقول: "إلى اللقاء ماما، أحبّكِ جداً".
يُجيبه الصّوت الأنثوي: "الله معك يا عمري (الله معك يا روح ماما)".
يصعد إلى حافلة المدرسة، ثم تختفي الحافلة بعيداً في الطريق.
أذهبُ إلى الحديقة لأجلسَ على مقعدٍ اختارتْه ذاكرتي كأقرب مقعدٍ لها، في ساحة الحديقة الصغيرة، الطّفل نفسهُ يلعب مع مجموعةٍ من أصدقائه، يركضُ, يقفزُ، يصرخُ، تمتلئ الحديقة بالضّحك والفرح، أراقبُهُ كما لو أنَّني أدرّبُ عينيَّ على ملامحه وحركاته، وأدرّب أذنَيَّ على صراخه، ثم ينبعث صوت الأم من نافذة المنزل: "حبيبي، عليك أن تدخل إلى المنزل، الشمس توشك أن تغيب، هيا إلى الداخل، (هَيَّا يا روح ماما)".
يدخل الصغير - سأسميه (روحي) - يدخل (روحي) إلى المنزل، وتغيب الشّمس.
مازلت جالسةً في الحديقة، أتخيّل الآن أنَّ (روحي) يأخذُ حمّاماً، ثمَّ يخرج مبلّلاً، لتسرعَ أمّهُ بالمنشفة، ثمَّ يجلسُ قليلاً أمام التلفاز، يتناول عشاءه، وتأخذه الأمُّ إلى السّرير، وتحكي له حكايةً كلاسيكيةً عن أرنبٍ متعجرف وسلحفاةٍ مثابرة "كنت أتخيّل دائماً أنّ السّلحفاة تلك هي أنا، لكنَّ الأرنب كان يسبقني في كلِّ مرَّة".
يغفو الصغير، وتطبع الأم قبلةً على جبينه، وتقول: "نوماً هنيئاً يا روح ماما".
أنظرُ إلى السماء ثم أغمض عينَيَّ، وأغطّ في نوم عميق، لأستيقظَ على صوت زوجي: "ما بكِ يا عزيزتي؟ لماذا تنامين على شرفة المنزل هكذا؟ ادخلي، لقد تأخر الوقت، لدينا موعد مع الطبيب غداً في الصّباح الباكر".
يسندني إليه، ويمسك بيدي إلى غرفة النوم، أضع رأسي على كتفه، وأمشي ببطء كسلحفاة، ثمَّ أهمسُ:
أريد (روحي)... أريد (روحي).
لا تقلقي حبيبتي، ربما يخبرنا الطبيب غداً أخباراً جيدة، ربما.
ثم ننام في السّرير، وحيدَين بلا روحي.