كانت الهزيمة التي مُنيت بها هيلاري كلينتون المرشحة الديمقراطية في واحدة من أشرس معارك انتخابات الرئاسة الأميركية، إن لم تكن أشرسها، وذلك أمام منافسها العنيد الجمهوري دونالد ترامب هي هزيمة تستحقها؛ ليس لأن ترامب أفضل منها في السياسة المبدئية الأخلاقية، فأياً منهما لم يكن أهون الشرين، كما ذكرنا في المقال السابق، وإنما لأسباب كثيرة لعل أهمها عاملان متداخلان لربما غابا عن أذهان معظم، إن لم يكن كل من تناولوا أسباب فوز ترامب وهزيمة كلينتون بُعيد إعلان النتيجة مباشرة في أهم القنوات الفضائية العربية والأجنبية الناطقة بالعربية:
الأول: ما كشفته «وكالة ويكيليكس» من وثائق دامغة تفضح تورطها غير المباشر في دعم تنظيم «داعش» الإرهابي عبر الشراكة مع أطراف عربية، وتلقيها أموالاً طائلة، فضلاً عن قضايا أخرى تتصل بالوضع الداخلي، وتسرب الوثائق لويكيليكس أثار غيظ الـ FBI الذي حقق معها طويلاً حول هذه القضية لتوظيفها إيميلها الشخصي في تداول وحفظ وثائق رسمية اعتبرت إخلالاً بالأمانة والمسئولية الوطنية وسببا في اختراق هذا «الإيميل»، ثم فاجأها الـ FBI نفسه بطلب التحقيق معها قبل أيام قلائل من موعد الانتخابات، وهو ما هزّ صورتها أمام الناخبين هزاً، الذين شعروا بأنهم إزاء امرأة تُضللهم وتخدعهم وتستخف بعقولهم.
ثانياً: انزياح كتلة من الناخبين المتوقع تصويتهم لصالحها بعد تلك الفضيحة بجلاجل إلى صالح ترامب، انتقاماً منها لخذلانها إياهم إثر صدمتهم من فضائحها إبان توليها وزارة الخارجية.
وكان الكاتب الصحافي الاسترالي جون بيلجر قد أجرى قبيل أيام من موعد الانتخابات حواراً مع جوليان أسانج مؤسس موقع «ويكيليكس» في مكان لجوئه بالسفارة الاكوادورية بلندن، في غرفة قطعت عنها السفارة الانترنت لتجنب اتهام واشنطن بلادها بالتدخل في العملية الانتخابية الأميركية، وقد وثقت مؤسسة DARTMOUTH FILMS ضمن أفلامها الوثائقية هذه المقابلة المهمة، حيث كشف فيها أسانج بأن موقعه اخترق 30 ألف وثيقة رسمية سرية كانت تحت متناول هيلاري كلينتون من أصل 60 ألف رسالة، ومن ضمنها رسائل سرية لرئيس حملتها جون بوديستا تكشف ضلوعها في تلقي عشرات ملايين الدولارات لصالح حملتها الانتخابية، مقابل صفقات تسلح وتبني مواقف سياسية مُنتظرة منها، لكن أسانج والذي بدا في المقابلة رجلاً سياسياً ذكياً غير عادي، اعتبر كلينتون مُجرد أداة ونصيبها متواضع من كعكة كبرى لصالح شبكة قوى مصالح اخطبوطية أوسع داخل النظام الرأسمالي الأميركي (لعل من بينها المؤسسة العسكرية وشركات الأسلحة)، وأوضح أسانج أيضاً بأن موقعه اصطاد وثائق تكشف أن نصف وزراء الرئيس أوباما مُعينون من قِبل أحد البنوك (حدّده بالاسم «سيتي بنك»)، وأن وول ستريت لها اليد الطولى أيضاً في مناصب الإدارة الأميركية، فإذا كان آل بوش ارتبطت مواقفهم السياسية بمصالحهم النفطية، فإن أوباما ربط مصالحه كحديث نعمة في الرئاسة بالمؤسسات المصرفية.
ومع أن هيلاري استغلت أبشع استغلال، زلّات وهفوات لسان ترامب، لقلة خبرته بمنع المسلمين من دخول بلاده، والتشدد ضد المهاجرين اللاتينيين، ولكن لنتساءل: ما هي سياسات الإدارات الأميركية الفعلية على مدى نحو ربع قرن، وبخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/ ايلول 2001، أو ليست العنصرية بعينها تجاه المسلمين واللاتينيين معاً؟ سواء أكان ذلك على الصعيد الداخلي أم على الصعيد الخارجي في علاقاتها مع الدول الإسلامية، ومع دول أميركا اللاتينية التي تعتبرها حديقتها الخلفية. وحتى في توظيفها فضائح ترامب الجنسية للتشهير به تناست المثل الغربي «إذا كان بيتك من زجاج فلا ترم خصمك بالحجارة».
ونسي الكثير من العرب بدورهم الذين مازالوا يؤمنون بقاعدة «أهون الشرين» ان امرأةً سياسية فاسدة سياسياً ومالياً وخُلقياً لا يمكن التعويل عليها بأي حال من الأحوال في استمالتها لأي قضية عربية وبخاصة «فلسطين»، وأنها لو فازت لعرّت وجهاً من وجوه النظام الجمهوري لبلادها، بظهوره على شكل من أشكال القيادة العائلية في رئاسة البلاد، فبوش الأب خلفه وإن ليس مباشرةً بوش الابن، وكلينتون الزوج خلفته كلينتون الزوجة. وحتى الذين عوّلوا عليها كنصيرة لحقوق المرأة في بلادها والخارج كأول امرأة تصل البيت الأبيض مخطئون، فهي ككل الرؤساء الأميركيين ليست سوى صنيعة مجتمع ذكوري، ولو كان غربياً، وأداة معقدة لآليات منظومة النظام الرأسمالي خلف المسرح بثوابتها لدى كلا الحزبين بحسب مصالح أجنحة الطبقة الحاكمة، ولعل أبرز مثال على ذلك الفشل الذريع للرئيس الحالي المنتهية ولايته أوباما، الذي أرادته هذه الطبقة مجرد ديكور للدلالة على انتهاء التمييز العنصري في بلادها ضد أبناء جلدته، فإذا بعهده يصبح من أسوأ عهود الرؤساء خلال 3 عقود خلت في الظلم والتمييز العنصري ضدهم، من قبل المؤسسات الرسمية والشرطة البيضاء في الأجهزة الأمنية.
وعلى رغم كل أخطائه ولسانه السليط المتهور، إلا أن ترامب وعلى عكس كلينتون شهد كل المراقبين له بأن الإمبراطورية الإعلامية الأميركية عملت برمتها تقريباً، وبكامل عدتها وأقصى طاقتها لصالح كلينتون بدون أدنى توازن لما للطرفين وما عليهما، وإذا كان لسانه الفالت قد أخطأ في حق المسلمين والمهاجرين اللاتينيين، فإنه لم يوفّر أجهزة المخابرات في بلاده التي فضحها وأدان النظام السياسي لبلاده كنظام موّلد بطبيعته لمستنقع الفساد الذي طالب بتجفيف ينابيعه، ووجّه أصابع الاتهام بتورط بلاده في دعم «داعش» وعدم جديتها في محاربته فعلياً، وتعهد بالنأي ببلاده عن التورط في تغيير الأنظمة التي لا تروق لها سياساتها. في حين كان عهد أوباما الذي توزرت فيه هيلاري لفترة حقيبة «الخارجية» اعترف حتى مُحلل سياسي مثل نيكولا بافيريز في جريدة «لوفيجارو» الفرنسية اليمينية بأنه هو العهد الذي شهد توسع هوة التباين الطبقي واللامساواة وانحسار الارتقاء في السلّم الاجتماعي، وتعاظم الفصل العنصري، وقتل الشرطة للسود، وتفشي جرائم القتل والعنف بمختلف أنواعه، والادمان وزيادة انعزالية أميركا عن العالم (الحياة، 9 / 11 / 2016).
وبطبيعة الحال هذا لا يعني بأن كُل ما قاله وأطلقه ترامب من وعود وشعارات في حملته الانتخابية، سيجد طريقه للتنفيذ خلال توليه سدة الحُكم ، كأي رئيس مُنتخب في العالم؛ لكن المؤكد هو أنه لن يكون أسوأ من المرشحة هيلاري كلينتون التي نالت هزيمتها بجدارة واستحقاق، وحتى إذا تنكر لوعوده وواصل تهريجه أثناء توليه مسئولية قيادة بلاده، فهذا سيكون خير رمز للتعبير عن الصورة السياسية التي آلت إليها أقوى دولة رأسمالية في العالم، وهي صورة تليق بها حقاً.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5180 - الجمعة 11 نوفمبر 2016م الموافق 11 صفر 1438هـ
شكرا الأستاذ رضي ..
احييك .. مقال رائع
انتخابات المؤسسات الكبرى وشركات السلاح ومصدروا الإرهاب العالمي !!
ليست بصدفة تعرض موقع ويكيليكس لهجمات هاكرز في ليلة الانتخابات
وثائق دامغة تفضح تورطها غير المباشر في دعم تنظيم «داعش» الإرهابي عبر الشراكة مع أطراف ((((عربية))))!!
شكرا ويكيليكس على كشف المستور !!
تحيا الديمقراطية .. عجبي اما كلينتون أو ترامب ? واين العقلاء?
هزيمتها
لانها مجرمة جدا جدا حقوده على ايران ولبنان الله لا يرفع لها رأيه لانها خبيثة ... ... صانعت حروب الله لا يرفع لها شأن ... حرام انها كانت وزيرة خارجيه لانها لا تساوي ظفر مسلم من العراق ولبنان وافغانستان مجرمه مجرمة لحد النخاع ...
هذه سياسات اللوبي الصهيوني .. وترامب لن يكون له خيار الا اتباع هذه السياسات شاء ام ابى !
هيلاري كلينتون تعاملت مع العرب في دعم داعش والعرب هم من مولو كلينتون في حملها الانتخابية
تسلم على هذا المقال الرائع. .. السبب الأول (التسريبات التي تدل على دعم المتطرفين) مخيف جدا وكأن أرواح الأبرياء و زعزعة أوطان بأكملها لعبه بأيديهم.
هذا الأمر ليس بالمستغرب .. جميع التوجهات والسياسات لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد