حدثان خطران في حياة الأمة، مرت ذكراهما هذه الأيام. الأول كان وعد بلفور المشؤوم، الذي صدر في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1917، وقد حمل وعداً للصهاينة، بتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. والثاني هو العدوان الثلاثي: «الإسرائيلي» البريطاني الفرنسي، على مصر، في 29 أكتوبر/ تشرين الأول العام 1956.
وعلى رغم وجود مسافة زمنية بلغت 4 عقود، بين وقوع الحدثين، فإن من الصعب الفصل بينهما؛ لأنهما يلتقيان، في مسعى لإعاقة مشروع الحداثة والتنمية العربية، وضمان بقاء التجزئة والتخلف جاثمين على الواقع العربي، وتعطيل المحاولات الجسورة، التي بدأتها طلائع النهضة العربية، في مصر والعراق وبلاد الشام، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتواصلت بالتحولات السياسية والاجتماعية التي أخذت مكانها في أرض الكنانة، وأجزاء أخرى من الأمة العربية، منذ مطلع الخمسينات من القرن الماضي.
ويجمع بين الحدثين، أنهما يدخلان في خانة التآمر على الأمن القومي العربي. وكلاهما مثل غدراً بالآمال والتطلعات المشروعة للعرب. فليس بالإمكان الحديث عن وعد بلفور من غير الحديث عن اتفاق سايكس بيكو الذي كشف عنه البلاشفة، بعد ثورتهم ضد قيصر روسيا، والذي تضمن تقسيم المشرق العربي، بين بريطانيا وفرنسا. وقد جاء وعد بلفور استكمالاً لمشروع التقسيم، والحيلولة دون وحدة الأمة.
وقد كشف المشروعان، سايكس بيكو ووعد بلفور، عن قمة التناقض والغدر البريطاني. حيث تزامن الاتفاق البريطاني مع الفرنسيين والصهاينة باتفاق بريطانيا مع الشريف حسين، وزعماء النهضة العربية، بمنح الشرق العربي، الاستقلال الشامل، والاعتراف بالإمبراطورية العربية، التي وعد بتأسيسها، بعد استقلال المشرق عن الهيمنة العثمانية. ولكن ذلك لم يجر العمل به، وما تحقق على الأرض، كان نقيض ذلك.
وبالمثل مثّل العدوان على مصر، غدراً آخر من قبل الغرب الاستعماري بالأمة العربية. فهذا العدوان جاء، ليقضي على الثورات المشتعلة في القارة السوداء، ضد الاستعمار الفرنسي، وفي المقدمة منها، ثورة الجزائر، كما جاء ليقضي على حلم تحرير فلسطين من الصهاينة. وجاء تنفيذه بعد اتفاق سري وقع في باريس من قبل شمعون بيريز، عن الكيان الصهيوني، وغي موليه رئيس الحكومة الفرنسية، وأنطوني إيدن رئيس الحكومة البريطانية.
وبمقتضى هذا الاتفاق السري، يقوم جيش الاحتلال «الإسرائيلي»، بالعملية العسكرية التي أطلق عليها «ممر متلا»، لتصل إلى شرق السويس، فتتعطل الملاحة الدولية في القناة. وعند ذلك تصدر الحكومتان البريطانية والفرنسية، إنذاراً يطلب إلى «الإسرائيليين» والمصريين الانسحاب 10 أميال شرق وغرب القناة، لتأمين الملاحة الدولية، فيستجيب الكيان الصهيوني للإنذار، ويعلن استعداده للانسحاب 10 أميال شرق قناة السويس، بينما ترفض مصر، الاستجابة للإنذار، لأنه يمثل اعتداء صارخاً على أراضيها، وعندها ينطلق العدوان، وهكذا كان.
لقد كان مشروع النهضة العربية، الذي تمثل في التصدي للهيمنة العثمانية، وحدوياً وحداثياً بامتياز. فقد هدف إلى تحرير الوطن، وتوحيد المشرق العربي، كخطوة أولى على طريق تشييد الوحدة العربية الشاملة، وبناء تجربة سياسية، على قاعدة التعاقد الاجتماعي. دليل ذلك ما كشفته المراسلات بين قادة حركة النهضة، والشريف حسين، وأيضاً مراسلات الشريف مع المندوب السامي البريطاني في القاهرة، السير مكمامون، والذي تعهدت بريطانيا بموجبها، بتمكين العرب بإقامة دولة موحدة لهم في مشرق الوطن العربي، حددت خرائطها بالتفصيل بين المتفاوضين.
أما أن يكون مشروع النهضة، مشروعاً وحدوياً عربياً شاملاً، فيكفي الإشارة إلى استشهاد الأمير عمر الجزائري، حفيد المجاهد عبدالقادر الجزائري، ضمن شهداء مايو/ أيار العام 1915، وانهماك المناضل المعروف عزيز المصري، من أرض الكنانة، بالثورة العربية الكبرى، ضد الاحتلال العثماني. وكان من شأنه تحقيق هذه المشروع الوحدوي، بالمشرق العربي خطوة كبيرة، على طريق الوحدة العربية.
وكان زرع الكيان الصهيوني، خنجراً مسموماً في القلب من المنطقة العربية، وقريباً جداً من نقطة الوصل، بين مشرق الوطن العربي ومغربه، والذي جاء وعد بلفور الذي منحه من لا يملك، لمن لا يستحق، تكريساً لتجزئة الأمة من جهة، ومنعاً لنهضتها وتنميتها وتقدمها من جهة أخرى.
وقد هدف العدوان على مصر، إلى إعاقة مشروعي التحرر والتنمية. استهدف البريطانيون مصر، لأن القيادة الثورية في مصر، أقدمت على تأميم قناة السويس. وكان التأميم رداً على رفض البنك الدولي، والمؤسسات المالية الغربية، منح مصر قروضاً مالية، تمكنها من تحقيق مشاريع التنمية والبناء، وبناء جيش وطني قوي. وتنفيذ المبادئ الستة، التي وعدت بها القيادة المصرية، بعدثورة 23 يوليو/ تموز العام 1952. وعلى رأس هذه المشاريع، بناء السد العالي، الذي من شأنه منع فيضان النيل وإغراقه الأرياف المصرية، وتوفير حاجة مصر، من الطاقة الكهرومائية.
وإذا كان مشروع وعد بلفور، قد انتهى لتحقيق غاياته، وبات واقعاً جاثماً على الأمة، وتهديداً مستمراً، لأمنها وحقها في البناء والتنمية والوحدة، فإن نتائج عدوان 1956، جاءت بعكس الأهداف التي خطط لها المعتدون. فقد انتهت الحرب بنصر عسكري حاسم لمصر، وهزيمة محققة للاستعمار التقليدي، وضعت الأسس لهزيمة هذا المشروع، في السنوات اللاحقة، في عموم الأرض العربية.
الدرس المستفاد من هذين الحدثين، هو أن الأمة حين يكون لديها مشروع سياسي واضح، وإرادة كفاحية، وإستراتيجية عملية لمواجهة العدوان، وحين تمتلك القدرة على اقتناص اللحظة التاريخية لتحقيق أهدافها، فإنها تتمكن من عبور المحن، وتضع أقدامها على السكة الصحيحة. وحين يتغيب برنامجها السياسي، وبوصلتها لتحقيقه، وحين تفقد إرادتها، يكون عليها دفع أثمان باهظة من كرامتها وحريتها، وأمنها.
نصر 56 على العدوان الثلاثي، ينبغي أن يكون بوصلة نتعلم منها تحديد الأهداف وصياغة الاستراتيجيات، وامتلاك الإرادة، واقتناص الفرص التاريخية.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 5179 - الخميس 10 نوفمبر 2016م الموافق 10 صفر 1438هـ
مقال أكثر من رائع