مع بدء معركة الموصل، عاد الحديث عن تأسيس فيدرالية تضم المحافظات «السنية»، وتشمل الأنبار ونينوى وديالى وصلاح الدين. وكان الاحتلال الأميركي، قد أطلق على هذه المحافظات، في بداية انطلاق المقاومة العراقية، بالمثلث السني. وإذا ما تحقق ذلك، فإنَّ مشروع تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات: كردي في الشمال، وسني في شمال بغداد وغربها، وشيعي في بقية المناطق العراقية، قد اكتمل، وبات أمراً ماثلاً على الأرض.
وبذلك يتم إنجاز أحد أهم أهداف الاحتلال، بعد أن اتخذ مشروع التقسيم، شكله القانوني، من خلال الدستور، الذي أشرف على إعداده وصياغته السفير الأميركي السابق، بول بريمر.
لقد مثّل مشروع التقسيم، الذي أضفت عليه العملية السياسية، بعداً قانونيّاً، سابقة في التاريخ العربي المعاصر، ليس لها ما يماثلها، من حيث تمييزه بين الأرض وبين الشعب الذي يقيم عليها. وخطورته تكمن في إعادة تركيبه للجغرافيا العربية، بما يتجانس مع سياسة التفتيت ومصادرة الهوية القومية. وهو نتاج أول دستور يصدر في بلد عربي بإرادة محتلة، ما يعني أن تأتي صياغته وبنوده متماهية مع رغبات المحتل ومصالحه. ولذلك فإنه جاء بالضد من رغبات العراقيين، وأيضاً ضد المكونات التي صنعت تاريخ العراق وأمجاده.
لقد صدر الدستور العراقي الحالي، في لحظة احتلال، غيبت التوازن المطلوب لترجمة القيم السياسية والحقوقية التي يتفق الجميع على أرجحية سيادتها. وبذلك غاب الفعل الجوهري للتعبير عن الإجماع، وغابت معه آليات العمل من أجل ترسيخ الوحدة الوطنية. ومعها غاب الحديث عن عروبة العراق، التي صنعت تاريخه، منذ الفتح العربي له، حتى لحظة سقوط بغداد، وأعادت أرض السواد، إلى عصور الطوائف التي سادت في العهود الغابرة.
إنَّ فرض التقسيم على العراق على أسس طائفية، ليست له علاقة بشعبه ولا بتاريخه. فلم يشهد هذا البلد، أي نوع من الحروب الطائفية، ولا كان التجانس بين طوائفه عبر تاريخه الطويل موضع جدل وشك. لقد اختلطت دماء أبنائه، وتقاسم الكثير من عوائله الانتماء إلى هذه الطائفة أو تلك. وأصبح من الصعب الفصل بين العراقيين وتمييزهم على أساس انتماءاتهم الطائفية. وحتى الصراعات والحروب الإثنية التي شهدها الشمال العراقي بين الزعامات الكردية التقليدية والحكومة المركزية، لم تكن أسبابها صبوات قومية للتحرر والانعتاق من اضطهاد العرب، وتحقيق الاستقلال، كما يُجرى ترويج ذلك من قبل القوى المسكونة بالحقد، على كل ما هو عربي، بل كانت بفعل تحريض من قوى خارجية كثيرة، تبادلت أدواراً في دعم التجزئة، وفقاً لتغير الخريطة السياسية الدولية، وانتقال المصالح.
يضاف إلى ذلك، أن وضع التقسيم في سياق الحديث عن الفيدرالية، هو استخدام مشوه وزائف؛ لأنه يتعارض مع تعريفها وشروطها والظروف التي تتحقق فيها. فالفيدرالية هي نوع من الحكم، تكون فيه السلطة موزعة، بنسب محددة، ينص عليها الدستور، بين المركز والأقاليم التابعة له. وظروف تحققها هي توصل جميع المعنيين إلى التسليم بعمق الاختلاف، وصعوبة الوحدة.
والفيدرالية على هذا الأساس، هي خطوة متقدمة بين دول متباينة في ثقافاتها ومصالحها وبُناها الاجتماعية وانتماءاتها القومية والدينية والسياسية، تفرض عليها الظروف الملحة حالة من التعاضد والتعاون واختيار نوع ما من الحكم بهدف التنسيق والتكامل، وصولاً إلى تحقيق نوع من الوحدة. إنها انتقال من حالة التشرذم والتمزق، إلى تحقيق قدر مقبول من اللُحمة. ولذلك فإن الذي يحدد مستوى هذه الفيدرالية هو قدر التقارب أو التباعد بين الأعضاء المنضوين في النظام الفيدرالي. وكلما تباعدت المسافات زادت صلاحية حكومة الإقليم، وضعف دور المركز، وكلما تراجعت عوامل الفرقة، زاد تأثير السلطة في المركز، حتى يصل الأمر حد الوحدة الاندماجية الكاملة.
لقد أصبح من القوانين المعروفة، في العلوم السياسية في التاريخ المعاصر، أن الفيدراليات تقام بين دول ترغب في إنشاء حالة من الوحدة مع بعضها بعضاً، ويصعب عليها تحقيق اندماج كامل بينها، بفعل عوامل موضوعية وموروثات تاريخية.
إذن، إنَّ الفدرالية لا تأخذ مكانها بين شعوب تمكنت من تحقيق وحدة اندماجية بينها، وعاش أبناؤها لعهود طويلة في سلام ووئام. لا يسجل لنا التاريخ انتقال شعوب من وحدة اندماجية متحققة إلى أنظمة فيدرالية. إنَّ التاريخ يؤكد أنَّ الشعوب تتجه نحو التطور من الأدنى إلى الأعلى، وصولاً إلى تحقيق الوحدة القومية الشاملة، وأن النقيض لذلك هو اتجاه ناكس، من الأعلى إلى الأسفل.
وقد علمنا التاريخ أيضاً، أن العقود التي تبرمها الشعوب، حين تختار شكل الدولة، هي عقود غير قابلة للنقض. وعلى هذا الأساس، تبدو الفيدرالية العراقية، غير منطقية، ونشازاً مغايراً لحقائق التاريخ والجغرافيا والسياسة، يُحاول فرضها على أسس، ستؤدي في نتائجها إلى متتاليات جديدة من الفرقة والتفتيت. ولذلك ينبغي رفضها وطنيّاً وقوميّاً.
الفيدرالية التي يُراد فرضها على العراقيين، هي خنجر مسموم في الجسد العربي، وإلّا فكيف لنا أن نفسر القول: «إن العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو جزء من العالم الإسلامي، والشعب العربي، فيه جزء من الأمة العربية». كيف يستقيم هذا الأمر، وأين هي حدود الأمة العربية في العراق؟! وهل يقبل العراقيون الذين تعربت أرضهم قبل الإسلام بمئات السنين، ألّا تكون عربية؟! وهل يقبل أبناؤه أن تمسح هويتهم التاريخية، في دلالة اسم بلادهم، ومكوناتهم في أكثريته الساحقة؟! وكيف يمكن القبول بمشروع يسقط عنصر الصمود والمقاومة في هوية العراق التاريخية؟!
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 5172 - الخميس 03 نوفمبر 2016م الموافق 03 صفر 1438هـ