كأنْ لا مكان للأناشيد في هذا النعْي اليومي الذي يكاد لا يُملُّ، ويجد له امتداد حضور في التفاصيل اليومية للإنسان العربي خصوصاً، والمشرقي عموماً، حتى ليكاد أن يكون هو الأصل ولنقل: الأولوية؛ ليس بفعل ضرورته، وانعدام البديل له، بقدر ما أن عيِّنة من بشر هذا الجزء من العالم هي نتاج تاريخ وحاضر طويل من مُسبِّبات الحزن، بل والفواجع التي تتجاوز الحزن؛ إن على مستوى إدارة شئونها من دون خيار لها، وتعميم ذلك الحزن من خلال تاريخ غارق في تكريس الاستبداد والاستحواذ والعنف المُوجَّه الذي يكاد يُخرج الذين يمارسونه ويديرون ذلك الاستبداد وما ينتج عنه من فواجع وتعميمها، من الانتماء للجنس البشري، هم الذين يتعهّدونه ويحرصون على امتداده.
هل ثمة إدارة للحزن؟ هل ثمة جهات منتجة له؟ لا نقترب هنا من الحزن الشخصي. حزن كل فرد منا. هو طرف معادلة في النفس البشرية أحياناً. نحتاج إلى الحزن كي ننتبه أيضاً لما فات وعبَر، لنلتفت للذي أقام فينا فنبذناه وكأنه لم يكن في زحام الحياة وانشغالنا بأنفسنا. نحتاج إليه أحياناً كي ننتبه ونصحو ونعيد حساباتنا وأولوياتنا وإعادة النظر في علاقاتنا. مثل ذلك الحزن لنا فيه الكثير من الخيارات، ولا نملك فيه خيارات في كثير من الأحيان. ذلك حزن بالضرورة يكون طارئاً، ولكننا إزاء حزن تتم إدارته وتكريسه، نُصاب به من أطراف تريد تأبيده في الحياة، وتريد أن تحوِّله إلى ثقافة وممارسة لا تنقطع، بحيث لا تجد الحياة نصيبها من الحياة أساساً في أوساط تلك النماذج. بمعنى آخر، هي المسبِّبات التي تجعل من ذلك الحزن قريباً من القضاء والقدَر. هو السم الذي يتجرعه كثيرون، باعتباره دواء وحلاً كما تروِّج لذلك أكثر من منصة.
بمعنى آخر وبرؤية أخرى للحزن الشخصي؛ هو يظل مجالاً حيوياً للذين لا مجال لهم في تدبّر أدائهم في الحياة، وتدبّر نظرهم الذي يخلو من النظر في كثير من الأحيان. الحزن الشخصي الذي هو بمثابة إعادة هيكلة للقائم بضعفه وهشاشته، ليستمد من كل ذلك نوعاً من الحصانات، والقدرة على المواجهة، وتحدّي ما كان يُظن أنه عصيٌّ على وضع حد لاستنزاف أي منا، والهيمنة على ما تبقَّى فيه.
كل ما يُحيل الحياة إلى جحيم بفعل سياسات خارجة على ما يُحقِّق الاستقرار والرفاهية والعدل والمساواة، هو نمط أصلي من أنماط إدارة الحزن، ومضمون عميق يتجاوز الشكل، من مضامين ترويج الحزن وجعله سمة من سمات الحياة التي لا تستحق أن توصف بالحياة؛ في ظل تردٍّ وتراجع وموات يطال معظم المجالات الحيوية التي يمكن للإنسان أن يتحرك فيها بصورة طبيعية، باعتبارها حقاً أصيلاً ضمن حزمة من حقوقه.
وعلى الجانب الآخر، هل يُتاح لنا تناول حزن له فقهه واتجاهاته ومذاهبه أيضاً؛ بحيث تُكرِّس مثل ذلك الحزن وتجعله رأس حربة البقاء، وتجعله واحداً من حصاناتها في الوجود، في تأبيد لحضوره! هل ثمة حصانة في حزن مؤبد؟!
حزن يغفل عن قيمة الفرح وسط غيوم السياسات وضباب التعاطي مع المشكلات التي تحجب الرؤية: رؤية الحياة والبشر والسَّعَة التي لن تتوافر في ظل انشداد لحزن هو الضيق الذي يكاد لا ينتهي، في تلاشي السعة وبالتالي تلاشي الحياة بمعناها الحقيقي والعميق.
بل ثمة فقْه حزن بدأ في الانحراف عن الفطرة والحط من القيمة الإنسانية، لدى مجاميع بشرية تكاد لا تنتمي للحياة. فقه حزن يتجلَّى في تعبيرات مليئة بالأذى من جهة، والانشداد إلى كائنات ليست من نوعها. فقه حزن انفرط لديه عقد وعلامات الاتزان والقيمة والهدف. فقه حزن أقل ما يقال عنه، إنه منحرف وضال ومُصطنع، ويمكن أن يقال عنه: إنه فقه حزن الخرافة والعدم، والشعور بالازدراء الذاتي، دون وعي ودراية، وأحياناً بوعي ودراية. إنه فقه حزن وليد الخواء أيضاً!
وبالعودة إلى الأناشيد المُؤجَّلة، فهي ليست بالضرورة ترنُّماً، بما تتيحه من حال توازن ونشوة مُحبَّبة. ليست بالضرورة لهواً. هي في قدرة أي منا على المُضيِّ في الحياة بطبيعته وسَعَة نفسه. بقدرته على أن يُراكم المحبة والانطلاق في اكتشاف معانيه ومعاني تلك الحياة. والأناشيد المُؤجَّلة، هي في تعطيل حصَّتنا من الحياة، وكأننا نملك زرَّ استئنافها أو تعطيلها.
وإذا كان «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» فستصطدم تلك الحياة وتتلاشى وسط كل أنماط الحزن تلك، بعيداً عن الحزن الشخصي البريء من كل ذلك. بعيداً عن مجاله الحيوي الطبيعي، وعلى رغم كل تلك الأنماط من الحزن؛ سنظل ننحاز إلى محمود درويش في نظره إلى ما تستحقه تلك الحياة، وهو استحقاق بجدارة يكشف عن طبيعة جدارتنا في هذا الوجود من عدمه.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 5171 - الأربعاء 02 نوفمبر 2016م الموافق 02 صفر 1438هـ
بعض الاحيان الحزن يصنع الحكمه وكأن الشخص مع الايام حصل على مناعه ذاتتيه سبحان الله