كان هناك نافذة كبيرة ترتسم في علية المنزل، تطل على الحديقة الشاسعة التي خطت كحقل أمام المنزل، على أطراف الحديقة بعض أشجار الصنوبر، فوق غصنها عصفور منهمك في بناء عشه، يحط عليها في فصل الربيع ويهاجر بداية الخريف.
من النافذة كانت خوليتا تطل بدميتها وتراقب العصفور، كانت عيناها غارقتين في الحزن.
حين أسألها: ما بك حزينة يا خوليتا؟
تجيب بابتسامة شاحبة ترسمها فوق وجهها كما لو كانت سبورة، لتعود لمسحها مباشرة بعد أن أستدير بوجهي نحو الحديقة.
خوليتا فتاة في بداية مراهقتها، في وجهها بعض آثار تلك الحبيبات الرقيقة التي تشي ببداية البلوغ، فتاة صامتة في أغلب الأوقات، وإن نطقت تقول شيئاً يفضح غباءها. الأطفال في مثل سنها يتصايحون ويركضون وراء أسوار حدائق المنازل بالحي، ينصبون أفخاخاً تقليدية للطيور المهاجرة التي تحط بالحي لبعض الوقت وغالباً لا ينجحون في اصطيادها.
أسألها: لماذا يا خوليتا لا تخرجين قليلاً إلى الحديقة للعب والقفز مع أصدقائك.
لا ترد خوليتا ولكن دميتها ترد من وراء العلبة الكبيرة التي ما إن تفتحها حتى تخرج منها دمية بهلوان وهو يحدث بعض الأصوات الغريبة، الدمية تتوارى خلف علبة البهلوان، تجيب على سؤالي وتختفي.
بينما أنا أبحث عن مصدر الصوت، الذي بدا لي في الغالب كأنه صوت خوليتا، لكن ذاكرتي تقول: لا ... لا ليس صوتها.
خوليتا هنا أمامي صامتة، تشبه الدمية التي تحملها دوماً، لكنها الآن لا تحملها. الدمية من وراء العلبة الكبيرة تطل وتختفي، تحدث ضجيجاً لتهرب وتختفي من جديد، كما لو كانت تلعب معي لعبة "الغميضة".
ولأني سريعة الانفعال قررت أخيراً وبغضب الإمساك بهذه المشاكسة وضبطها متلبسة.
قفزت من وراء فراش خوليتا الذي كنت أجلس فوقه، انقضضت على الدمية كما لو كانت فريسة.
حين استيقظت من غيبوبتي التي تسبب فيها ارتطامي بحافة السرير الخشبية، وجدت خوليتا تلعب مع دميتها المتحركة وتنظر لي وهي تبتسم.
لم يكن هناك سوى بعض الأصدقاء الذين تكلموا عمّا وقع أمس، أنه مجرد هلوسة بسيطة يصاب بها الإنسان عندما يتعب بفعل تقدمه في السن.
أخرجت تنهيدة من أعماقي التي تبعث لي دوماً برسائل تخبرني فيها بدنو رحيلي.
خوليتا المسكينة بقيت تعتني بي لأربع سنوات بعدها، حين ضجرت مني، غادرت القبو في اتجاه العاصمة، لتحط في قبو بيت مهجور وتبني عشها هناك كعصفور مهاجر.