عُيِّن عبد المطلب الأمين أوّل سفير سوري في الاتحاد السوفياتي بعد الاستقلال. وعندما وصل إلى موسكو وقدّم أوراق اعتماده إلى الديكتاتور الأحمر ذي الشوارب المُدبَّبة جوزيف ستالين في الكرملين وأنهى خطاب التقديم قال لستالين: «وليتأكد لك يا سيدي أن ليس لسورية أية مطامع في الاتحاد السوفياتي». عندها انفجر ستالين من الضحك حتى كاد أن يقع أرضاً وهو يسمع ذلك الكلام. ومُذذاك ظلّ الأمين صاحب حظوة عند الزعيم الماركسي بسبب ما قاله في حضرته وصار طرفة.
كان ستالين قليل الضحك. وكانت ابتسامته شبه الغائرة التي يبدو بها لا تعكس حقيقة ما يضمر. تَذَكَّرَتهُ الشعوب السوفياتية محرراً لـ فولوغراد (أو ستالينغراد) من الجيش الألماني النازي خلال الحرب العالمية الثانية، لكنهم أيضاً تذكروه لدوره الدموي في معتقلات سيبيريا (الجولاگ)، أو كما كان يسميها ستالين بـ «معسكرات العمل» التي مرّ فيها ثمانية ملايين إنسان. لقد مات 28 في المئة من أولئك البشر تحت وطأة التنكيل. لذلك، لم يترحّم عليه السوفياتيون بعد أن رحل.
كانت وفاته في الخامس من مارس/ آذار 1953. وكان يبلغ من العمر حينها 75 عاماً. وقد سُجِّيَ بمحاذاة فلاديمير لينين، الزعيم الماركسي الأول بعد الثورة البلشفية. لكن وبعد ثمانية أعوام، وتحديداً في الحادي والثلاثين من أكتوبر (أي في مثل هذا اليوم) عام 1961، اتهمت محكمة سوفياتية ستالين بارتكاب مذابح فظيعة، فنُقِلَ جثمانه من الساحة الحمراء إلى مكان آخر. لقد أنست جرائمه شرف انتصاره على النازية، وجعلت كثيرين يُغيِّرون رأيهم فيه، بل ويكرهون الشيوعية بسببه.
من أولئك الناس الذين غيَّروا مواقفهم من التجربة الماركسية واهتزت قناعتهم فيها الكاتب والناقد الأدبي الأميركي البارز إدموند ويلسن (1895– 1972). كانت الشيوعية قد وَلَجَت إلى أقصى نقطة في العالم الرأسمالي حيث الولايات المتحدة الأميركية، مخترقة عقول وقلوب الملايين من الناس هناك، الذي أرهقهم رأس المال وسطوته. كانت ميول ويلسون منذ الثلاثينات حتى الأربعينات يسارية واضحة، سجَّلها في تدويناته في الصحف والكتب التي ألّفها.
وعندما شَرَعَ في كتابه» To the Finland Station» ، عارضاً تاريخ الفكر الثوري من الثورة الفرنسية عام 1789 ولغاية اللينينية سنة 1917، كان ويلسون مؤمناً بأن الماركسية استطاعت أن تُحوِّل النظرية التاريخية إلى واقع مُعَاش. لكن الرجل وخلال سبعة أعوام من الانكباب على التأليف، بدا له أن الأمور ليست كما كان يعتقد، إذْ ظهرت الماركسية كفكرة في سلوكيات جوزيف ستالين القمعية، فَفُسِّرت طبقاً لذلك السلوك.
لقد عاش ويلسون اضطراباً داخلياً. فقد ظلّ وفياً للماركسية ومؤمناً بأفكارها لكنه لم يستطع هضم المشروع الستاليني التي تلبّسها، فحاول أن ينقد النظرية ذاتها. وخلال مسيرته النقدية تلك، وصل إلى بطلان أمرين فيها: قيم العمل والمادية الديالكتيكية، (كما يذكر ستانلي هايمن) باعتبار الأولى نوعاً من التصوف والخيال الباطل، والثانية اجترار لاشعوري للثالوث المسيحي، دون أن يكترث إلى أن هذين الأمرين هما المرتكز الأساس للماركسية في جوانبها الاقتصادية والفلسفية، ومن دونهما تصبح لاغيةً تقريباً.
لقد تأثر كثيراً بما فعله ستالين بالأفكار الماركسية التي رأى أن الديكتاتور اقتلعها من جذورها، رافضاً الدعاية التي استخدمها الرجل لتشييد هالة حول شخصه. كان يرى بأن العقيدة السياسية التي تتطلب قصصاً مُلفقة لتحسين صورتها تنطوي على ضعف، وكان يعني حكم ستالين. كان ويلسون (وعلى رغم إيمانه بأفضلية البلاشفة على القياصرة) مُبعِّضاً في إيمانه بالماركسية، خصوصاً أنه ينتمي بالأصل إلى مجتمع مدني تلمّظ حلاوة الحرية منذ مئات السنين.
الحقيقة أن تجربة ويلسون مع ستالين، ثم مع الماركسية، جديرة بأن يُلتفَت لها. ليس الأمر انحصاراً في المسألة الماركسية والرأسمالية الذي تكفل الزمن بتقييمهما علناً عبر تجربتهما بقدر ما هو تأمّل في كيفية بقاء الأفكار (بصورة عامة) وديمومتها وارتباطها بمسألة السلوك الحامل لها. فنحن في الغالب، وتحديداً في دولنا النامية، لا نرى أفكاراً بل نرى أشخاصاً يحملونها، لذلك يصبح التقييم لها من خلال أداء حامليها، وليس عبر النظام الميكانيكي الذي تمشي على وقعه تلك الأفكار، والسبب أنها ما زالت أسيرة الشخصانية.
وهذا باعتقادي أمر خاطئ، كون التقييم هنا يسير على متابعة نوازع وميول وغرائز إنسانية هي في المجمل لا يكون ضبطها إلاّ من خلال ملاكات ذاتية، أو من خلال القوانين الكابحة لها والتي بالتأكيد لن تكون نافعة في هذا المورد؛ لأنها مُعطلة كون الأفراد في فضاء السلطة في دول العالم الثالث هم أكبر من القانون ذاته. من هنا، يصبح الأساس هو محاكمة أشخاص تتجلى الأفكار على أيديهم بطريقة خاطئة، وليس ضمن نظام ميكانيكي تعمل الأفكار والنظريات على أثيره، كما في الدول المستقرة كبريطانيا التي لا نجد فرقاً كبيراً بين أداء وليام غلادستون قبل 130 عاماً وبين تيريزا ماري ماي في العام 2016 في النظام القائم، كون الأعراف الديمقراطية راسخة منذ زمن.
نعم، الأفكار نسبية وهي ليست نهائية كونها تعبيراً عن آخر ما توصل إليه العقل البشري في منطقة جغرافية وبيئة اجتماعية محددة، لكن ليس من الصحيح أن نمنحها نتائج تدل على صوابها أو خطأها من خلال تجارب أفراد لم يُحسنوا إدارتها، وإلاّ رادفنا حقبة الرعب على يد روبسبيير مع الثورة الفرنسية، وكذلك الحال مع الكثير من التجارب الدينية والسياسية والاقتصادية على مر التاريخ. لذلك هذا أمر يجب أن يُعاد النظر فيه في عمليات النقد والتقييم.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5168 - الأحد 30 أكتوبر 2016م الموافق 29 محرم 1438هـ
120000 ألف شهيد سقطوا وهم يحفرون قناة السويس بأظافرهم وأسنانهم لم تبكي عليهم السماء ولا الأرض! .. واليوم نبكي على من مات فى معسكر العمل فى الأتحاد السوفيتي وننادي وا ماركسااااه وا أفكاراااه؟!!.
الموضوع في وادي وانته في وادي الله يساعدك
العدالة تقتضي أن تحاكم الأفكار ليس في سنينها الأولى بل بعد نصف قرن أو أكثر لأنها ربما تصبح الأفضل من أي خيار آخر كما في حالة الديمقراطية كخيار حكم