يشهد العالم الآن متغيّراتٍ دولية وانتقالاً من عصر الإمبراطورية الأميركية التي قادت العالم وحدها لأكثر من عقدين، إلى عصر التعدّدية القطبية، كما يشهد انتقال موسكو من موقع «العدوّ» لواشنطن (كما كان الأمر إبّان الحرب الباردة) إلى حال «الخصم»، بعدما تعثّر موضع «الشريك» لواشنطن في حلّ الأزمات الدولية وفي بناء نظامٍ دولي جديد، تكون فيه لموسكو ولواشنطن، دور الريادة المشتركة.
ونجد أيضاً مع هذه المتغيّرات الدولية الجارية الآن، تطوراتٍ إقليمية مهمّة تشمل رؤية واشنطن الجديدة لكلٍّ من إيران وتركيا والسعودية ولمستقبل إسرائيل في المنطقة، إضافةً إلى تحديد مصير وجود ودور دول عربية مثل سورية والعراق ولبنان واليمن وليبيا.
الملاحظ أيضاً في هذه الحقبة من التحوّلات الدولية والإقليمية الحاصلة أنّ المُجمَع عليه تقريباً في منطقة «الشرق الأوسط»، بما فيها من عرب وفرس وأتراك وإسرائيليين، هو الغضب المشترك على السياسة الأميركية، وكأنّ واشنطن قد خسرت أصدقاءها ولم تكسب خصومها بعد!
يبدو أن حال السياسة الأميركية في «الشرق الأوسط» سيكون مستقبلاً كما هو في «الشرق الآسيوي»، حيث تحرص واشنطن على علاقاتٍ جيدة لها مع كلٍّ من الهند وباكستان على رغم ما بينهما من أزماتٍ وحروب، وكما هي أيضاً سياسة التوازنات التي تتبعها واشنطن مع كلٍّ من اليابان والصين. لكن من الواضح أنّ هناك تخلّياً عن السياسة الأميركية التي اتّبِعت في حقبة العقد الأول من هذا القرن، والتي قامت على الحروب الاستباقية، وبأنّ هناك موافقة الآن من صُنّاع القرار الأميركي على الأجندة التي حملها معه الرئيس أوباما في العام 2009، وهي التي تنهي عهد «الانفرادية الأميركية» في قيادة العالم، وتريد استخدام «القوة الناعمة» والتسويات السياسية للأزمات الدولية، بديلاً عن أسلوب الحروب والتورّط العسكري الأميركي في خدمة الأهداف الأميركية.
هذا التحوّل الحاصل في الأساليب الأميركية سبّب اعتراض بعض «أصدقاء» أميركا بالمنطقة، وجعل واشنطن من «المغضوب عليهم»، لكن هل العرب تحديداً هم على «صراطٍ مستقيم»؟!. الإجابة هي طبعاً بالنفي، فالعرب اليوم هم في أسوأ حال من الانقسامات والصراعات الداخلية، ومن افتقاد البوصلة السليمة لرشد حركتهم، ومن هيمنة الأفكار التكفيرية والممارسات الطائفية والمذهبية والإثنية. وهو حالٌ يجعل من الأوطان العربية أرضاً خصبة لكلّ مشاريع التفتيت التي تراهن عليها إسرائيل وأطراف أجنبية عدّة. فالعرب اليوم يعانون من ضلالٍ مبين مسئولٌ عنه هذا الكمّ المتخلّف ممّن هم في مواقع مسئولية فكرية وسياسية ودينية وإعلامية.
وكما جرى استغلال التخلّف العربي في مطلع القرن العشرين لتحقيق هيمنة أوروبية على المنطقة من خلال شرذمة الأرض العربية، يتمّ الآن بناء متغيّرات سياسية وجغرافية خطيرة في عموم المنطقة العربية من خلال توظيف الانقسامات الحاصلة لدى الشعوب العربية. والملامة هنا على العرب أنفسهم قبل أيِّ طرفٍ أجنبيٍّ آخر.
إنّها أشهرٌ قليلة باقية من فترة حكم أوباما في «البيت الأبيض»، وهو لن يسمح بأن تكون أشهراً عقيمة أو مجرّد وقتٍ ضائع بانتظار نهاية ولايته في مطلع العام المقبل. وفي تقديري أنّ هذه الأشهر ستكون هي الأهمّ في السياسة الخارجية لإدارة أوباما، من حيث مقدار الحصاد السياسي الأميركي من إنهاء الأزمات الدولية المتفجّرة، أو لناحية كيفية «توزيع الحصص» مع روسيا الاتحادية وضبط سقف الخلافات الحاصلة معها، أو لجهة ترسيخ أسس النظرة الأميركية المستقبلية لإيران، بعد الاتفاق الدولي معها بشأن ملفّها النووي.
أيضاً، فإنّ السعي الأميركي لتسوية الأزمة السورية بالتفاهم مع موسكو سيكرّس النفوذ الأميركي، السياسي والأمني، في سورية، كما سيعطي دفعاً كبيراً لمواجهة أشمل وأكبر، تريدها إدارة أوباما هذا العام، مع «داعش» في سورية والعراق وليبيا، ومع «القاعدة» في اليمن وإفريقيا، وحيث سيترتّب على البدء بتسوية الأزمة السورية، تسوياتٌ أيضاً لأوضاع سياسية متأزّمة في العراق ولبنان، كما هو الهدف الأميركي كذلك بالنسبة للصراعات في اليمن وليبيا، وبشكلٍ متزامن مع تحرّك أميركي - فرنسي مشترك تدعمه موسكو، لإعادة الملفّ الفلسطيني إلى رعايةٍ دولية بعد احتكاره من قِبَل واشنطن لسنواتٍ طويلة.
لكن مشكلة إدارة أوباما، في أجندتها الدولية الآن، هي ليست فقط مع «الشريك - الخصم» الروسي، بل أيضاً مع حلفاء لها في منطقة «الشرق الأوسط»، وهي دول معنيّة أيضاً في الأزمات التي تحاول واشنطن التفاهم مع موسكو بشأنها، لكنّها لا تجد لها تأييداً واضحاً من هؤلاء الحلفاء.
تعثُّر أجندة أوباما الدولية هو أيضاً مسئولية أميركية وأوروبية، فما فعلته بريطانيا وفرنسا في ليبيا كان مدعوماً من الإدارة الأميركية، ثمّ ما الذي فعلته واشنطن لضمان عدم انجرار ليبيا إلى حال الحرب الأهلية وتحوّلها إلى نقطة جذب لجماعات التطرّف، طالما أنّ الولايات المتحدة اعترضت على أي تدخّل عسكري إقليمي، وخاصّةً من مصر، لوقف تداعيات الحرب الداخلية في ليبيا؟!
ثمّ ألم تكن واشنطن هي التي شجّعت تركيا على التدخّل الواسع في الأزمة السورية، وراهنت معها على تغيير النظام السوري في أشهر قليلة، وعلى محاولة تسهيل وصول حركة «الإخوان المسلمين» للحكم في عدّة دول عربية؟!. كذلك كان الموقف الأميركي مشجّعاً لتسليح جماعات المعارضة السورية عن طريق تركيا، والتي فتحت حدودها لكلّ الراغبين بالقتال في سورية من مختلف جنسيات العالم!. أليست خطيئة عسكرة الحراك الشعبي، المترافق مع التدخّل الأجنبي، هي التي ميّزت ما حدث ويحدث في ليبيا وسورية من فشل للانتفاضات الشعبية بالمقارنة مع نجاح تجربة الحراك الشعبي السلمي العام 2011 في تونس ومصر؟!
أليست واشنطن مسئولةً أيضاً عن وجود ظاهرة «المجاهدين الأفغان» في حقبة الصراع مع روسيا الشيوعية، والتي منها خرج «تنظيم القاعدة»، ثمّ من «القاعدة» ولدت «داعش»؟!. أليست واشنطن هي التي هندست أيضاً الحرب العراقية - الإيرانية، هذه الحرب التي أضعفت البلدين وأشعلت شرارات الانقسامات المذهبية والقومية، حيث استغلّت أطرافٌ كثيرة هذه الحرب لتحريك الخصومات على أساس عربي/ فارسي أو سنّي/ شيعي؟!
ثمّ أليست الولايات المتحدة هي التي احتلّت العراق ودمّرت مؤسساته الوطنية، بحيث تحوّل الفراغ بعد ذلك إلى مجمعٍ لكلّ القوى التي أرادت مواجهة أميركا أو الاستفادة من وجودها العسكري هناك، فإذا بالعراق ساحة تنافس جديدة بين إيران وخصومها، في ظلّ انتشار ظاهرة الميليشيات على أساس مذهبي وإثني، وبدعمٍ من الحاكم الأميركي للعراق آنذاك بول بريمر، وتكريس هذه السياسة بدستور ثبّت الواقع الانقسامي!
أمّا عن «الملفّ الفلسطيني»، فما الذي فعلته إدارة أوباما لفرض رؤيتها لحلّ الدولتين أو لوقف الاستيطان، ولماذا لم تستخدم الحدّ الأدنى من الضغط المالي على إسرائيل، كما فعل جورج بوش الأب في مطلع التسعينيات؟!. ولماذا استطاع أوباما أن يفرض الاتفاق مع إيران، على رغم اعتراضات نتنياهو، ولم يفعل ذلك في الملفّ الفلسطيني؟!.
بالمحصّلة، أصبحت المنطقة العربية، ولمصالح دولية وإقليمية مختلفة، ساحاتٍ لصراع هذه المصالح في ظلّ غياب مرجعيةٍ عربية فاعلة أو حدٍّ أدنى من «المشروع العربي» القادر على مواجهة «المشاريع» الإقليمية والدولية المتنافسة على المنطقة.
ونعم، العرب سياسياً وفكرياً في ضلال، إذ هل هو صراطٌ مستقيم ما يسير عليه المسلمون والعرب حينما تتحول التعدّدية الطائفية والمذهبية في أوطانهم إلى خلافات، وإلى صراعاتٍ دموية أحياناً؟! أو هل هو صراطٌ سياسي مستقيم حينما يُناصر البعض إسرائيل في سياساتها ويخدم مشاريعها بالمنطقة، ويتعامل معها علناً، بينما يواصل الإسرائيليون تهويد مدينة القدس وغيرها من الأراضي الفلسطينية المحتلة؟!
إقرأ أيضا لـ "صبحي غندور"العدد 5163 - الثلثاء 25 أكتوبر 2016م الموافق 24 محرم 1438هـ