أقرأ الاهداءات في الكتب ذات الطابع الأدبي، وحتى النقدي والفكري، باعتبارها مداخل مختصرة لها، أو «حبَّة منشِّطة»، للولوج إلى عالمها، أو لنقلْ: نص فتح شهية قبل البدء بالوجبة. في بعضها يكون نصاً قائماً بذاته، فيه اختزال للرؤية التي يُراد إيصالها. أنظرُ إلى الإهداء في الكتاب وكأنه بطاقة دعوة خاصة لي للدخول إلى «البيت» أو «الحفل»، أو عالم النص نفسه. خُلوُّه من الكتاب - وذلك نادراً ما يحدث - يُشعرني بألَّا دعوة أساساً، عليك أن تقتحم النص دون دراية. «جميل أن تفعل ذلك أحياناً، وليس كل الوقت». أقول بعض الكتب وليس جميعها. والإهداءات التي تُمعن في التصنُّع والتكلُّف لا تشعر معها بتلك الدعوة الخاصة إلى البيت أو الحفل. حتى الإهداءات الخاصة تشركك في نمط وسلوك إنساني، مسألة صدقها أو المجاملة أمر آخر.
ستجد أكثر الكتَّاب حساسية في تعاملهم مع اللغة، هم الأبرع في التعب والسهر على مثل تلك الإهداءات. قد يتعطَّل الدفع بالكتاب إلى المطبعة بسبب بضع كلمات، لا يكتمل الكتاب إلا بها. لا يشعر الكاتب أنه أنجز مشروعه من دونها. كأنه بسملة كل نص، في أحايين كثيرة.
النظر إلى الإهداء باعتباره نصاً، يضعك أمام قدرة بعض المبدعين في العالم على اختزال عالمهم، والعوالم التي تلتقي معهم. ثمة اختزال يبرز في بعض تلك الإهداءات لكل ذلك الكمِّ المتدافع من الصور والأفكار والمضامين؛ وأحياناً ليس بالضرورة أن يكون على تماس مع ما ستقرؤه؛ فقد يكون عالماً قائماً بذاته، وسط عالم مستقل أنت بصدد الدخول إليه.
قليلون هم الذين استرعى انتباههم ما كتبه عميد الأدب العربي طه حسين من إهداء في كتابه الأشهر «الأيام»، ربما لأنه كان ضمن المقررات الدراسية، وذلك ما نفَّرنا من كثير من الأعمال والروائع العربية، وأعدنا اكتشافها بعد سنوات، حين تخلَّصنا من صرامة المقررات وشروطها. نقرأ في الكتاب المذكور: «أهدي كتابي هذا للذين لا يعملون، ويؤلمهم أن يعمل الآخرون»! «الأيام» لم يكن سيرة ذاتية محشوَّة بالتفاصيل والمفارقات والتحديات فحسب؛ فبقدر ما كان مليئاً بتجربة الحياة، كان في حد ذاته عملاً مدهشاً، ولم يكن الإهداء بمعزل عن العوالم التي ستسحرنا في فصولها اللاحقة.
ولعل أكثر ما علق في ذاكرتي منذ سنوات وحتى اليوم، الإهداء الذي كتبته الأديبة السورية الكبيرة غادة السمَّان في روايتها «كوابيس بيروت»، ذات خسف ورماد عاشته المدينة، وجاء مُتسقاً مع عوالمها، لكن الإهداء هذه المرة يأتي رد اعتبار للمهمَّشين في الحياة، أولئك الذين كتبنا عليهم أن يكونوا على الأرصفة أو ما بعد الهامش (العمَّال)، كان الإهداء على هذا النحو «أهدي هذه الرواية، إلى عمَّال المطبعة، الذين يصفُّون في هذه اللحظة حروفها، على رغم زوبعة الصواريخ والقنابل، وهم يعرفون أنّ الكتاب لن يحمل أسماءهم، إليهم، هم الكادحون المجهولون دونما ضوضاء كسواهم من الأبطال الحقيقيين، الذين يعيشون ويموتون بصمت، ويصنعون تاريخنا، إليهم، هم الذين يكتبون الكتب كلها بدون أن تحمل تواقيعهم، إلى أصابعهم الشموع التي أوقدوها من أجل أن يطلع الفجر، أهدي هذه السطور»!
درويشيات:
لا الرحلةُ ابتدأتْ، ولا الدربُ انتهى
لم يَبْلُغِ الحكماءُ غربتَهُمْ، كما لم يَبْلُغ الغرباءُ حكمتَهمْ
ولم نعرف من الأزهار غيرَ شقائقِ النعمانِ،
فلنذهب إلى أَعلى الجداريات: أَرضُ قصيدتي خضراءُ، عاليةُ،
كلامُ الله عند الفجر أَرضُ قصيدتي، وأَنا البعيدُ، أَنا البعيدُ
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 5161 - الأحد 23 أكتوبر 2016م الموافق 22 محرم 1438هـ
كلماتك ....
جميل ما كتبت ..