قبل أكثر من 40 عاماً من الآن صدر الديوان الشعري الأول -البشارة- للشاعر قاسم حداد. صدر هذا الديوان بالتحديد في أبريل/ نيسان 1970. وقد مثل هذا الديوان باكورة مسيرة الشاعر المستمرة منذ ذلك الحين حتى الآن.
بعد صدور الديوان الأول (البشارة) بشهرين تقريبا صدر أول نقد جدي وقاسٍ لتجربة قاسم حينذاك، وقد جاء هذا النقد من قبل الناقد والكاتب والسفير حسين راشد الصباغ، وذلك في معرض تقييمه الحركة الأدبية الجديدة في البحرين بشكل عام، في ملحق خاص عن البحرين نشرته جريدة النهار البيروتية.
ومع أن النقد كان شديدا ومشخّصا لنقاط الضعف في تجربة قاسم الوليدة، وهي كثيرة ومنها وفقا للصباغ أن «معظم قصائده يغلب عليها التفكير الجاد. وحيث يبدو الشعور ضعيفا. ولعل ذلك يعود إلى عدم تفاعل شعوره مع تفكيره، بحيث نلمس نضجا في مشاعره. والشعر الجيد هو الذي يستطيع أن يحول الفكر القاسي إلى صور حافلة بالمشاعر الحية». ويضيف الصباغ ملاحظة أخرى «وتبدو معاناته غير ناضجة، وعيوبه تكمن في أن معظم شعوره عبارة عن كد ذهني، وأن صوره معادة وتغلب عليها النثرية والتقريرية» .
ويضيف الناقد الصباغ سمة أخرى حيث يقول «كما أن لغته لا تسعفه في التعبير عن تجاربه، وهذا يعود إلى ضعف لغته الشعرية وعدم اهتمامه بتطويرها». لكنه يؤكد في نفس الوقت بأن قاسما «يملك الموهبة، لكن الموهبة وحدها لا تكفي، ولعله يستفيد من تجارب الآخرين وخبرتهم، وينفتح على تراثه العربي وروحه الخلاقة بكل وعي وإخلاص».
يبدو لي أن هذا النقد وبغض النظر عن مدى صحته أو عدمها، هو أكثر نقد جدي وجه إلى قاسم حداد أقصد تجربته وليس شخصه، حتى بعد مضي قرابة نصف قرن على مسيرته في الإبداع الشعري وغير الشعري.
لذلك فإن النقد التالي لملاحظات الصباغ لم يستفد منها، هذا النقد سواء كان نقدا من قبل نقاد محليين أو نقاد عرب. ومعظم النقد في حقيقة الأمر هو إطراء واحتفاء واحتفال وليس نقدا بالمعنى الحرفي إلا فيما ندر.
ومن خلال متابعتي المتقطعة تجارب حداد، أرى أن المستفيد الوحيد من نقد الصباغ هو قاسم حداد نفسه، وأظن أنه أخذ كل هذه الملاحظات (ولو أنها محبطة لبدايات الشاعر) بعين الاعتبار، وقد أخذ عهدا على نفسه أن يصبح شاعرا يشار إليه بالبنان في خريطة الشعر البحريني والعربي بطبيعة الحال، وقد حقق ذلك بجدارة وعينه على نقد/وصايا الصباغ. مع أنه ظل لمدة 10 سنوات من بدايته متأثرا بجيل الرواد أمثال السياب كما في ديوانه (خروج رأس الحسين من المدن الخائنة) 1972 أو من خلال أدونيس كما في ديوانه (شظايا) 1982.
ولإثبات ذلك فقد أبدع قاسم عشرات التجارب الشعرية وغير الشعرية أو المركبة، وكل تجربة تؤكد أن قاسما قد تغلب على كثير من الملاحظات التي أشار إليها حسين الصباغ في حينه، وأخذ يشق طريقه الملكي الخاص.
لقد أنجز قاسم قرابة 40 عملا (شعر، نثر، أعمال مركبة شعر ونثر، شذرات، وشعر وتشكيل وموسيقى، بيانات: موت الكورس 1984 وبيان كما نرى في مارس 2011) لم تكن كلها ذات مستوى إبداعي واحد؛ لكنها في العموم تميل إلى أن قاسما مهجوس بالتجريب من جهة، وبالحداثة والرمزية والسوريالية من جهة أخرى، وهو القائل أنه ورث فهمه عن العلاقة بين الحب والشعر والحرية الأقانيم الثلاثة كما يدعوها من أسلافه السورياليين» وهؤلاء -بحسب حداد نفسه- من الغنى بحيث يجعلونك تكشف جماليات جنونهم يوما بعد يوم»، وعدم الركون للثبات والتقديس، وهو القائل لا قداسة للأشخاص ولا قداسة للنصوص.
ولا شك في أن حداد يعتبر من أكثر شعراء البحرين انتاجا للشعر، ولا يضاهيه في هذا الشأن أو يقترب منه إلا علي الشرقاوي. أما هذه الكثرة من الدواوين وغير الدواوين فتعني جملة من الأمور متناقضة، أهمها: أن قاسم حداد مربك للناقد والقارىء؛ لأنه في كل إنجاز جديد هو مختلف عما سبق، إما تقدما أو تراجعا لكنه لايكرر نفسه. ومنها أيضا أنه ربما لقناعة لدى حداد أن التراكم الكمي يؤدي إلى تغير نوعي، وهو ما ينشده الشاعر ويطلبه بأن يأتي من الإبداع الشعري أو المركب خصوصا مالم يأتِ به الأوائل، وأنْ يمثل حالة متميزة ومختلفة تماما عما هو سائد في الخريطة الشعرية محليا وعربيا. وقد حاز جزئيا على ذلك.
وقد تعني هذه الكثرة أيضا أن الشاعر نفسه في حالة ارتباك وتفكك على مستوى الوعي والشعور، وبالتالي هذا العدد الكبير نسبيا من التجارب وكأنه لا يقرّ له قرار، ولايثبت على حال، أي في حالة صراع مع ذاته؛ قاسم ضد قاسم، فهو اليوم شيء، وغدا في تجربة أخرى شيء آخر. وفي هذه الحالة تمتاز تجربته بطابع التفكك أكثر من التواصل والتطور والاستمرارية. فمثلا تارة هو في «نقد الأمل» وتارة في «ورشة الأمل» وثالثة في «مكابدات الأمل». فعلى ماذا نستقر؟ وتارة هو شاعر، وتارة هو كاتب قصص قصيرة جدا كما في «قبر قاسم»، أو يزاوج بين الاثنين. ولكل منهما تقنياته المختلفة عن الآخر.
كما تعني هذه الكثرة أن حداد مهجوس بالتجريب الدائم، وبالحداثة والبحث الدائب عن صيغة ما لن يصل إليها أبدا. وتعني أخيرا هذه الكثرة لدى حداد أن الكم ليس بالضرورة انْ يؤدي إلى تغير نوعي أو إلى الكيف كما في الفلسفة. فقد يقول قائل أن ذلك مجرد كم لا غير.
ومع قناعتي أن الشاعر حداد قد تجاوز نفسه كثيرا في كل أعماله منذ الديوان الأول حتى عمله الأخير -اقصد الذي بين يدي على الأقل حيث لديه أعمال أكثر جدة- «أيها الفحم، ياسيدي» (دفاتر فنسنت فان غوخ) الصادر العام 2015. واستفاد من وصايا الصباغ؛ لكنه ظل حبيسا للطابع الذهني للإبداع، مما أفقد معظم تجاربه حرارة الشعور والانفعال، واستمرت المسافة بين وعيه وقلبه قائمة لصالح الوعي، وكأنه يحفر في الصخر بدلا من الرسم على الحرير، حيث الشعر يتطلب السيولة الشعورية والذهنية على حد سواء.
لكن أيضا يمكن القول أن شاعرنا استطاع من خلال هذا الحضور الإبداعي المتنوع، والكمي والنوعي والتجريبي والسوريالي والمربك، أن يكوّن رأسمالا رمزياً. وأن يأخذ بملاحظة الصباغ في «الانفتاح على تراثه العربي وروحه الخلاقة بكل وعي واخلاص»، وقد برهن الشاعر حداد على ذلك من خلال (أخبار مجنون ليلى) ومن خلال (طرفة بن الوردة).
ومع ذلك يشغل بالنا سؤال: هل كل ما أنجزه الشاعر حداد يدخل في خانة الإبداع الحقيقي؟ للإجابة عن هذا السؤال يمكن القول نعم بوجه عام، بحيث ينبغي التأكيد على أن حداد يجوس مناطق ممنوعة أو غير مأهولة في الشعر العربي الحديث، ويعتبر طليعيا في هذا المجال ما في ذلك شك.
أما السؤال الأكثر أهمية في تقديرنا لماذا كل هذا الاحتفاء بقاسم حداد؟ هل يعود ذلك إلى إنجازاته الإبداعية طوال مسيرته، أم إلى أشياء أخرى نحن لا نعرفها قد لا تتعلق بطبيعة إبداع حداد نفسه؟
لا نستطيع أن نعطي جوابا حاسما في أن إبداع حداد هو السبب الوحيد في هذا الاحتفاء، لأن هناك من الشعراء من لا يقلون إبداعا عن قاسم وإنْ كانوا أقل إنجازا منه -وهذا لايضيرهم- مثل الشاعر المتميز علي عبدالله خليفة، فتجربته جديرة بالاحتفاء والتقدير. لكنه لم يحظ بما حظي به حداد من اهتمام واحتفاء. وهذا يعني أن هناك أسبابا أخرى ليس لها علاقة بطبيعة الإبداع بقدر ما لها علاقة بالخلفيات السياسية والايديولوجية الأولى التي تبناها حداد في بداية مسيرته الشعرية، وأعطته رأسمالا رمزيا، لكنه تخلى عنها أو أعاد النظر فيها على الأقل فيما بعد، وخاصة بعد فترة السجن المريرة. ومع ذلك ظلت هذه الخلفية ذات تأثير رمزي كبير في كيفية النظر إلى مختلف ابداعات قاسم حداد.
أما فيما يتعلق بتجارب الشاعر أو لنقل تجربته الإبداعية، فهي لم تكن في مستوى واحد ولم تكن كلها إبداعية. وإذا أمكننا أن نوصّفها لقلنا أنها تراوح بين 3 مستويات: المستوى الأول ولد بالفعل وفيه مقومات الإبداع والتميز، أي تجارب أصيلة وإبداعية منذ لحظتها الأولى. والمستوى الثاني من تجاربه استطاعت أن تحقق مستوى من الإبداع لكنها لم تكن إبداعية بمعنى أنها اكتسبت الإبداعية. أما المستوى الثالث فيبدو في إضفاء الابداعية والتميز على بعض تجاربه، وهذه من أعمال الناس ومن ضمنهم النقاد بطبيعة الحال. وهي أعمال لا تتسم بالأصالة وعادية جدا، وليس فيها من الابداع شيء إلا اسم مبدعها.
وإذا كان المستوى الأول امرا مفروغا منه حيث ان الإبداع يفرض نفسه على المتلقي ولو بعد حين، فإن المستويين الثاني والثالث هما من خارج الإبداع؛ بل من صنع الناس، ويتضافران من أجل اضفاء صفة ما إيجابية أو سلبية على شيء ليست تلك الصفات من مقوماته.
وأظن أن هذين المستويين وقد تداخلا مع المستوى الأول، قد لعبا على امتداد أكثر من 4 عقود دورا في تكريس قاسم حداد، حتى أصبح مع مرور الوقت ظاهرة شعرية عامة.
وما نشهده في الحقيقة هو الاحتفاء بما ينجزه حداد، وبغض النظر فيما إذا كان يستحق كل هذا الاحتفاء أم لا. ودليلنا على ذلك أن في الساحة المحلية كثيرين من الأدباء والمبدعين لا يقلون عن قاسم، لكنهم دونه احتفاء في أوساط المثقفين. فالساحة وعوامل التكريس لا تسع إلا شاعرا واحدا هو قاسم حداد. إنْ على الصعيد الرسمي أو الصعيد الاجتماعي، في الوقت الذي تعج فيه الساحة الثقافية بكثير من التجارب الشعرية المتميزة.
ولكن في مثل هذه الحالة ماذا سيرد حداد على هؤلاء المحبين/ المكرسين بحق وبدون حق؟ هل سيرد عليهم كفى تقديس الأشخاص والنصوص. لا أظن ذلك. ومع ذلك يظل قاسم حداد علما شعريا من أعلام الشعر في البحرين له مذاق خاص. كما لعبدالله خليفة وعلي الشرقاوي نكهتهما الخاصة، وغيرهم من الشعراء لكل نكهته الخاصة، لكنهم ينقصهم التكريس دون أن ينقصهم الإبداع.
أخيرا، نختم القول أن ما حصل لتجربة حداد في بدايتها من معيقات، لم يحصل لغيرها من التجارب، وخاصة من مجاييليه، فقد خرجت تجربته من قلب المعاناة، وبالمقابل فما حصل لتجربة الشاعر نفسه من ظروف مؤاتية ومشجعة وداعمة فيما بعد، لم يحصل لعدد كبير من الشعراء الآخرين القدامى والطالعين. بينما تصدر تجربته الآن عن الترف.
أما على صعيد التحليل النفسي، فسيظل الشاعر حداد في دوافعه للإبداع، وفي اللاوعي مشبوحا بشبح وتعاليم الناقد حسين الصباغ قبل أكثر من 4 عقود من زمننا هذا.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 5151 - الخميس 13 أكتوبر 2016م الموافق 12 محرم 1438هـ