يسود الدول العربية ضعف مركب في البنى السياسية والاجتماعية والعلمية وانهماك في الوقت نفسه في الصراع على السلطة بصفتها غاية وليس بصفتها وسيلة للبناء. لهذا ينقض الذي يسيطر على الذي فقد السيطرة وأعلن معارضة سلمية، وينقض النفوذ على الضعفاء ممن فقدوا القدرة على حماية النفس، وينقض الجيش على الشعب. بسبب احتكار السلطة (وتعريفها البقاء في موقع تنفيذي فاعل بلا مساءلة وبلا فصل سلطات وبلا آليات انتخابية حقيقية)، يبتعد الشعب من لعب دور واضح ودستوري في الحياة السياسية، لكنه في الوقت نفسه يبتعد من تطوير قدراته وإمكاناته، وهذا بدوره يجعل الحكم في الإقليم العربي بلا محددات وبلا تنمية وضوابط. في السياسة العربية لا تطبق الشريعة الإسلامية ولا نقيضها، فالسلطة العربية تطبق شريعتها الخاصة التي تقوم بالأساس على القوة الأمنية. في الحال العربية، البقاء للأقوى وليس شرطاً للأصلح وفق نظرية داروين.
لكن الفارق بين الأقوى والأصلح تغير عبر التاريخ، فالأقوى في بلادنا العربية لايزال يعبّر عن نفسه من خلال القوة الخشنة وقوة العقاب، ودور المنع والاستئثار في كسر المختلفين بل والمستقبل، وهذه حال لا تبني دولاً. أما الأصلح في بناء الدول الحديثة وتنمية المجتمعات وغير المتوافر في بلادنا العربية إلا في أضيق نطاق، فهو العقل والقدرات التنظيمية والإعلامية والحريات والحقوق في سوق مفتوح يحدده أسلوب العمل وأصوات الناخبين. لايزال عالمنا العربي معلقاً بين السماء والأرض في مدرسة القوة والبطش. في بيئة كهذه لن يبرز الأصلح على السطح، فطاقات المجتمع تبقى مدفونة نتاج صراعات القوة. هذا الوضع هو المسئول عن نشوء حال مشوهة في الجانب المعارض تؤمن بالقوة مثل «القاعدة» و «داعش» ومدارس العنف والإرهاب. العالم العربي يعيش القساوة بكل أبعادها، لكنه تجاوزها لمصلحة الشراسة.
ربما يجب أن يموت هذا الكم من الناس وتدمر هذه المدن والقرى والأحياء التي نحبّ، قبل أن يتعلم العالم العربي ضرورات الالتزام بقواعد سياسية ودستورية وحقوقية في توسط الاختلاف السياسي والاجتماعي. للحروب ثمن، وهناك ثمن للتخلص من الرأي الآخر. في هذه الأوضاع، تقاتل الجيوش العربية على جبهات عدة في حروب بلا أفق، وتقاتل في الوقت نفسه معارضات مسلحة مختلفة وفئات مكونة من ميليشيات متنوعة في حروب ممتدة.
ذاكرة القرن العشرين مليئة بجنون الغرب وتعظيمه مبدأ البقاء للأقوى، كما حصل في الحربين العالميتين. التاريخ يقول لنا إن الإنسان لا يتعلم إلا عبر الثمن الذي يدفعه. هذا بالتحديد هو السبب الذي يجعل كلاً من ألمانيا واليابان ترفضان الروح العسكرية التي تنطلق من مبدأ القوة. فالحرب العالمية الثانية جعلت الأمتين أكثر تركيزاً على الاقتصاد والتعليم والتنمية وأقل تركيزاً على الجيوش والعسكرة. أميركا تعلمت الكثير من فيتنام، لكن فيتنام لم تكن كافية لتعليم قوة كبرى لم تعرف في السابق احتلالاً مهدداً لأراضيها، لهذا احتاجت العراق وأفغانستان لتدفع ثمناً أكبر للتدخل والاحتلال.
تعلم الغرب الوسيلة الديمقراطية على مراحل، لأنه اكتشف كم يكون الثمن مضاعفاً عند انتزاع سلطة وتجاوز الأسس الدستورية، لهذا بالتحديد يعتني الغرب بحقوق محددة للإنسان لمعرفته بدورها في تدمير الحضارة. كم من ملك بريطاني وفرنسي وأوروبي أزيح وقُتل، كم من دولة سقطت وقسمت وانتهكت؟ كم من إقليم أبيد وأعيد بناؤه، وكم من مدينة تم تدميرها في أوروبا؟ في الغرب وقعت جرائم تاريخية بين الطوائف المسيحية، ثم وقعت جرائم مماثلة ضد اليهود، وأخرى ضد الشيوعيين والتيارات السياسية. إطلالة صغيرة على الحرب الأهلية الإسبانية (1936 - 1939) توضح لنا مدى الدمار والموت اللذين سكنا أوروبا.
في المدى المنظور، مازلنا كعرب في مرحلة تشبه الحربين العالميتين، لهذا سنقاتل بعضنا بعضاً حتى النهاية. وسيستمر سقوط عالمنا الذي عرفناه قبل العام 2011، وهذا سيؤدي إلى فراغ كبير. التعلم لن يكون ممكناً للجيل العربي الراهن، والسبب في ذلك أن الجيل المسيطر من القادة والمسئولين التنفيذيين فقد القدرة على اكتشاف طريق آخر، ويخوض معركة البقاء السياسي، وهو مستمر في الحرب التي تستند إلى القوة حتى النهاية.
وسط هذا الضجيج تحاكم في العالم العربي شخصيات سياسية بسبب رأي أو مقالة في صحيفة أو بسبب محاضرة في ندوة، ويلاحق شبان بسبب كلمة أو جملة على «يوتيوب». مجرد النظر إلى لائحة الاتهام لكثير من المحكومين في محاكم الدول العربية يوضح كم وصل العالم العربي إلى منحدر لا مخرج منه في المدى المنظور. ليس المنحدر بغريب. فقد عمت العالم العربي الرسمي حال من السطحية والضياع، وتكفي مراجعة بسيطة للإعلام الرسمي العربي لنرى كم أصبح يشبه إعلام الاتحاد السوفياتي قبل سقوطه.
في المقابل، قلما يلتفت الإقليم وسياسيوه وقادته إلى مشاكل مثل التلوث ونقص المياه وأزمة السكن وحال التعليم والتصحر وتراجع الزراعة. قلما يعالج الأمن الغذائي ومشاكل الفقر والعشوائيات التي تنتج عنفاً، وقلما يلتفت إلى الفساد واختفاء الطبقات الوسطى وغياب العدالة في شرايين النظام السياسي العربي. في بعض الدول العربية أصبحت التفاهة اختصاصاً والسطحية أسلوباً دائماً في التعبير الرسمي.
إن الجيل الذي سيرث الفراغ هو الجيل الذي سيكون مصيره الوقوف على ما تبقى من أطلال العالم العربي. التعلم العربي يقع الآن وسيقع في الزمن القادم على شكل فكر جديد وقيم تؤمن بحيادية الدولة بين المواطن والمواطن وبحيادية الجيش في الصراع الداخلي وبأهمية التداول على السلطة. الفكر الجديد سيؤكد مكانة المواطن والرأي العام، وهو في الجوهر ردة فعل على الفكر الإقصائي - الهرمي. لايزال الإقليم بلا مستقبل، بينما تنتشر فيه الحرائق وتطوق مدنه وقراه سحب دخان لم تكشف بعد اتجاهها وطبيعتها.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 5151 - الخميس 13 أكتوبر 2016م الموافق 12 محرم 1438هـ
العرب لا يتعلّموا لذلك لا طائل من مناشدتهم فالعبر كثيرة والقصص اكثر لكن ما الفائدة