العدد 5148 - الإثنين 10 أكتوبر 2016م الموافق 09 محرم 1438هـ

التاريخ السياسي لموكب «العباسية» الكربلائي

رضي السماك

كاتب بحريني

في التسعينات من القرن الماضي، كانت تصلني بريدياً بانتظام من لندن على عنواني السكني، نسخة من مجلة «رسالة العراق» الشهرية، وهي إحدى مجلات المعارضة الوطنية في الخارج، وفي أحد أعدادها أتذكر جيداً أن واحداً من شيوخ المناضلين العراقيين الكبار، ألا وهو عبدالرزاق الصافي، كتب مقالاً تطرق فيه إلى ما كانت تلعبه المواكب الحسينية من دور سياسي مهم في تاريخ العراق النضالي، منذ الاحتلال الإنجليزي، ومروراً بالأنظمة الاستبدادية المتعاقبة. ونشر عدداً من «الردات»، كما تُعرف في اللهجة الدارجة، والتي ترددها تلك المواكب والمطعمة بشعارات حسينية - سياسية، ووجّه نداءً طلب فيه من كل من تحفظ ذاكرته شيئاً من تلك الردات أن يوافيه بها أو المجلة، وقد كان هنالك عدد من القراء، ممن تجاوبوا معه بالفعل ونُشرت «الردات» التي أرسلوها في الأعداد اللاحقة.

ولعل الباحث الكربلائي طه خضير الربيعي ممن التقطوا خيط الفكرة ليقوم بتطويرها تطويراً تخصصياً علمياً، عبر توثيق وتأريخ فعاليات وأنشطة المواكب الحسينية في مدينته «كربلاء المُقدسة»، وتحديداً موكب محلته السكنية التي وُلد وترعرع فيها والمعروفة بـ»محلة العباسية»، وذلك من خلال كتابه الموسوم «هدير الحُسين في موكب ومحلة العباسية». وحينما تبحر في صفحات هذا الكتاب الكبير (أكثر من 350 صفحة) فإنك لا تشعر بمدى الجهد الضخم الذي بذله المؤلف في جمع المواد المتعلقة بالمواكب الحسينية، والردات والأحداث المرتبطة بها فحسب، بل وتستحضر بين يديك تاريخاً عريقاً ينبض بالحياة لا يوثّق نضال حارته الشعبية السكنية «محلة العباسية» فقط، وجلهم من المهمشين والفقراء والمستضعفين، بل ويدوّن شذرات سريعة وصفحات مضيئة من تاريخ نضال مدينته وشعبه العظيم، كما لا يخلو من معلومات جغرافية وتراثية مفيدة تتعلق بالمدينة.

يتكون الكتاب من مقدمة، وتمهيد يشتمل على كيفية نشوء «كربلاء» وأصل تسميتها، و3 فصول: الأول يتعلق بتاريخ العزاء الحسيني، وقد ظهر أول موكب عزائي العام 1650 بإشراف الشيخ محمد جواد بلاغي، والفصل الثاني يستعرض فيه الأماكن التي سُميت بالعباسية في عدد من الأقطار العربية، ومنها مصر حيث الحي الشعبي الكبير المعروف بهذا الاسم في القاهرة، وأخير الفصل ثالث وهو أكبر فصول الكتاب، ويدرج في سياقه 36 عنواناً فرعياً لمواضيع شتى من نحو: تكوينات عزاء العباسية، التكية، الهودج، الأعلام (الرايات)، هيئة شباب فلسطين، شعراء العباسية، صورة رأس الحسين وقصتها، الردات السياسية لعزاء العباسية... إلخ، ويختتم الكتاب بملحق صور خاص بعدد من مشاهير الشعراء والرواديد، والمواكب أثناء مسيراتها، وبعض الأمكنة.

كما يستعرض المؤلف في كتابه نماذج من «الردات» الخاصة بموكب العباسية، سواء التي ظهرت في مواسم عاشوراء خلال السنوات القليلة الماضية التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين، أو خلال مواسم من عقود القرن الآفل. وفي ظل مصادرة الحريات العامة طوال حكم الأنظمة الشمولية المتعاقبة، ومنها على وجه خاص حق التظاهر السلمي، كان من الطبيعي أن تستغل قوى المعارضة على اختلاف ألوانها، الفعاليات والمناسبات الجماهيرية الدينية للتعبير عن المطالب والاحتجاجات الشعبية ضد العسف والفساد لما تتمتع به تلك المناسبات من حصانة دينية تحمي المشاركين فيها. لكن هذه الحصانة لم يقم لها الدكتاتور الراحل صدام حسين أي اعتبار، إذ حظر موكب العباسية طوال عهده، كما تم سجن وتعذيب وقتل ونفي أعداد من القائمين عليه. ويُعد موكب «العباسية» في سني تنامي الحركة الوطنية هو الأطول والأضخم على الإطلاق بين سائر المواكب.

على ان هذا الموكب العريق تاريخياً في تأسيسه (1888) لم تقتصر اهتمامات رداته على الشأن الوطني المحلي فحسب، بل وعبّرت كذلك عن خلجات تفاعل الشعب العراقي مع القضايا العربية والعالمية العادلة. إذ كانت محلة العباسية بمثابة الدينامو أو قلب المدينة النابض في إشعال الانتفاضات والمظاهرات الجماهيرية السياسية، فمنها انطلقت المظاهرة التي عمت كل شوارع وأزقة كربلاء ضد وزارة نوري السعيد العام 1931، كما لعبت دوراً مهماً في انتفاضة نوفمبر/ تشرين الثاني 1952 الشعبية، فضلاً عن الاحتجاجات الشعبية العارمة التي انطلقت من «المحلة» ذاتها وعمت المدينة ضد العدوان الثلاثي على مصر العام 1956، ناهيك عن محاولتها الشجاعة لصد الانقلاب البعثي الدموي في فبراير/ شباط 1963 على سلطة ثورة 14 تموز الوطنية.

ومن المناسبات التاريخية التي شهدتها المدينة، والتي أوردها المؤلف زيارة المناضل القيادي الجزائري عباس فرحات لكربلاء سنة 1958 على رأس وفد كبير إبان الكفاح المسلح لشعبه ضد الاستعمار الفرنسي، وحيث زار أيضاً مرقدي الحسين والعباس وسط حفاوة شعبية وسياسية كبيرة، فأينما حلوا تنطلق هتافات التأييد للثورة الجزائرية والتنديد بجرائم الاحتلال الفرنسي في الجزائر. كما كانت لمحلة العباسية بطولات مشهودة في الانتفاضة الشعبانية التي اندلعت في مارس/ آذار 1991، على إثر هزيمة الغزو العراقي للكويت.

ومنذ انطلاقته الجديدة بُعيد سقوط نظام الطاغية صدام مازال موكب «محلة العباسية» بمثابة الصوت الحر الشجاع المُعبّر عن آلام وآمال الشعب العراقي في الخلاص من الارهاب «الداعشي» وفساد السلطتين التشريعية والتنفيذية، ونيل حقوقه المعيشية والديمقراطية الحقيقية الكاملة، بلا تدليس أو تملق ومتاجرة بمشاعره الدينية، ومن رداته في فضح النواب الفاسدين «دمك ايسيل بالانفجارات والبرلمان يريد دوم امتيازات»، وثانية جاء فيها «وين حامي الحرب على المفسدين، ما شفنا حكم عل المجرمين، رقابهم محد لواها، لا قضاء ولا نزاهة» .

ونظراً لأهمية الكتاب التوثيقية والتاريخية؛ فإنه بحاجة إلى طبعة مُنقحة جديدة تتلافى الأخطاء المطبعية والإملائية والنحوية الكثيرة التي حفلت بها الطبعة الأولى، وإعادة تبويبه وترتيب مواده وفق منهجية علمية أكثر إحكاماً، ولربما الأفضل لو يستعين المؤلف في هذا الصدد بأحد المراجعين الأكاديميين، ومدقق لغوي لضبط سلامته اللغوية، ولا يقلل ذلك بطبيعة الحال من القيمة العلمية التاريخية والتوثيقية لكتابه المهم، وما بذله من جهود مضنية لتأليفه وإصداره.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 5148 - الإثنين 10 أكتوبر 2016م الموافق 09 محرم 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 6:18 ص

      تسجيل التاريخ جيدللاجيال القادمة. لكن عندما يكون المسجل غيرواقعيا يتوقف الانسان و يستنتج عدم جدوي هذه التسجيلات. انا كربلائي و عمري اكثر من سبعين عاما. محلة العباسية تنقسم الي قسمين العباسية الشرقية والغربية. كان فيها اكبر و أشد السرسرية (القبضايات)كما يقولون باللهجة المحلية. تغظيم بعض الردات السياسية وتسميتهانضالا غير صحيح. المواكب الحسينية في معظم الأوقات كانت تقاتل بعضها بعضا للحصول علي الاولوية في السير. هذا الواقع مذكور في كتب الدكتور علي الوردي. كم تمنيت ان نكتب واقع الماضي دون مبالغة.

    • زائر 1 | 6:08 ص

      موزوون

      هذا مقال موزون ولكأنّه قصيدة

اقرأ ايضاً