تمثل الدبلوماسية أداة رئيسية في العلاقات بين الدول وفي إطار التنظيم الدولي، ولقد شهدت الدبلوماسية خلال القرون الثلاثة الماضية تطوراً كبيراً؛ بل ومذهلاً، فمن الدبلوماسية البسيطة وغير الدائمة إلى الدبلوماسية الدائمة منذ مؤتمر فييِنا 1815، ثم دبلوماسية التنظيم الدولي والدبلوماسية متعددة الأطراف في إطار المؤتمرات الدولية، ثم جاءت دبلوماسية القمة مع تطور وسائل الاتصال الحديثة، وأخيراً نشهد الدبلوماسية الرقمية التي تجمع في أدواتها ما بين أدوات الإعلام ووسائل الاتصال الحديث، وتتميز بالسرعة في نقل المعلومات وبلورة المواقف واتخاذ القرارات.
المستشار محمد صالح محمد من خيرة الدبلوماسيين البحرينيين الذين يعبرون عن هذا التطور، فقد عمل في العلاقات الثنائية ثم في الأمم المتحدة، وهو دبلوماسي محنك وله خبرة طويلة، كما أنه جمع بين الخبرة الدبلوماسية والنظرية الدبلوماسية ونظرية الاتصال وأدوات التكنولوجيا الحديثة، وكان كتابه الذي أصدره منذ أقل من عامين عن الأمم المتحدة ودورها وتطورها نموذجا لهذه الخبرة العملية والنظرية، والآن يمثل كتابه الجديد «الدبلوماسية في العصر الرقمي» إضافة نوعية؛ وذلك لندرة الكتابات العربية في هذا الصدد، بل حتى الكتابات غير العربية قليلة، ما عدا المؤلفات الأميركية في الكتب والدوريات والبحوث الأكاديمية.
من هنا يكتسب كتاب المستشار محمد صالح أهمية خاصة، فهو لا يثري المكتبة العربية فحسب؛ بل يقدم أيضا دراسة علمية للتطور الدبلوماسي، وبذلك فهو يقرع الجرس أمام الدبلوماسيين التقليديين بأن عليهم أن يطوروا أنفسهم، أو يبحثوا عن عمل آخر غير الدبلوماسية التي على العاملين فيها أن يواكبوا العصر.
وينقسم الكتاب إلى 4 فصول، حيث يعرض الفصل الأول لتطور الدبلوماسية عبر العصور، وتنوع مجالاتها من سياسية واقتصادية، ومن ثنائية إلى متعددة المسارات، الفصل الثاني يحمل عنوان «عصر الدبلوماسية الرقمية»، فيعرض لثورة المعلومات وجذور مفهوم الدبلوماسية الرقمية، وضرورة الانتقال للعصر الرقمي، ويعرض تأثير ذلك كله على عمليات التواصل والتفاوض والتدريب الدبلوماسي والعمل القنصلي، والفصل الثالث يتناول بتفصيل تكنولوجيا الاتصالات ومزايا الاتصالات الحديثة بالنسبة للعمل الدبلوماسي، كما يتناول الباحث وضع الدبلوماسية الرقمية في المنطقة العربية وفي الأمم المتحدة، ويحلل مزاياها، الفصل الرابع يخصصه لتحديات التكنولوجيا الحديثة ومستقبل الدبلوماسية، ومن أبرز التحديات التي أشار إليها صعوبة اتخاذ القرار وضرورة عامل السرعة والأمن الالكتروني، وكذلك الجوانب القانونية للتكنولوجيا المتقدمة، وأخيرا مستقبل العمل الدبلوماسي في عصر الثورة الرقمية.
ولا يتسع مقال واحد لعرض الكتب لكثرة المصطلحات العلمية، وضرورة شرحها للقارئ غير المتخصص في الدبلوماسية، أو في تكنولوجيا المعلومات، وأدوات الاتصال والتواصل الحديثة؛ ولذا نقتصر في هذا المقال على بعض الملاحظات المرتبطة بالكتاب والباحث.
الملاحظة الأولى: هي أن من يطلع على الكتاب يلمس دقة الباحث وكثرة مراجعه وتنوعها ما بين العربية والانجليزية وغيرها من اللغات الحية، وقد أورد الباحث هوامش في نفس الصفحات ثم في نهاية الدراسة سجل المراجع العربية والانجليزية أو بالدقة المراجع الأجنبية، كذلك الرسائل والأطروحات العلمية والإشارة للصحف ووكالات الأنباء التي تمثل أحدث مصادر المعلومات عن أي موضوع في عالمنا المعاصر، هذا بالإضافة لوثائق الأمم المتحدة وهو ما يعد عملا ضخما يحتاج لأكثر من باحث ولكن المستشار محمد صالح اضطلع بكل ذلك بكفاءة واقتدار.
الملاحظة الثانية: إن الكتاب يعد مرجعا مهما لكل مشتغل بالعمل الدبلوماسي، بل لكل مشتغل بالعمل الإعلامي، وكما هو معروف الارتباط وثيق بين الدبلوماسية والإعلام أو الاتصال إذا استخدمنا المصطلحات الأكثر انتشارا في عصرنا هذا.
الملاحظة الثالثة: إن الكاتب كان دقيقا في تحليله وعميقا في بحثه عن المفاهيم الجديدة، والكتابة سهلة والمراجع ميسرة له؛ لإتقانه اللغتين العربية والانجليزية وبعض لغات أخرى.
الملاحظة الرابعة: استطاع الباحث أن يعصرن (أي يجعلها عصرية) كثيرا من المفاهيم الخاصة بالدبلوماسية فربط بين الانترنت ومبدأ السيادة، وبينه وبين تسوية النزاعات، بل إن الحصانة الدبلوماسية وهي من المفاهيم التقليدية الراسخة تأثرت بالتطور الرقمي في عالمنا المعاصر كذلك أساليب التفاوض والتدريب الدبلوماسي والعمل المحاسبي في السفارات.
الملاحظة الخامسة: إن الباحث تأثر بعمق بالدول التي عمل بها وخاصة في الهند والصين والأمم المتحدة، كل منها للدبلوماسية طبيعة خاصة، فالاولى رائدة عدم الانحياز، والثانية اهم قوة صاعدة، وهي القوة الاقتصادية الثانية في العالم، والثالثة مركز الدبلوماسية متعددة الأطراف، كما تأثر الباحث بتطور الاتحاد الأوروبي وأثره على العمل الدبلوماسي، وهو ما يعني أنه كان دائم التفاعل والتواصل مع الدولة التي أوفد للعمل بها، وعملية التفاعل هذه من أهم المهام الدبلوماسية والتي تميز دبلوماسي عن آخر حالم ويعيش في حارة ضيقة فكريا وجغرافيا، وأود أن أنوه أنني في كتابي عن «الدبلوماسية والإستراتيجية والبروتوكول» طرحت مفهوم الدبلوماسية والحضارة، وأن الدبلوماسي هو مبعوث حضارة لدى حضارة أخرى، وها هي الأحداث والتطورات على أرض الواقع وفي مجال العمل البحثي تثبت ذلك.
فكتاب أمثال صمويل هاتنجتون، وفوكوياما، ونعوم تشومسكي، وغيرهم أبرز تأثير الحضارة على علاقات الدول وطرح العالم مفهوم حوار الحضارات بدلا من صراعها وتصادمها، كما طرحوا مفهوم تحالف الحضارات في إطار مبادرة الأمم المتحدة وهكذا، والمستشار صالح وإن لم يتطرق تفصيلا لهذه المصطلحات، إلا أنه بطرحه لمفهوم الدبلوماسية الرقمية وأوضاعها في العالم العربي وفي الدول الأخرى بما في ذلك الأمم المتحدة فهو يوضح للقارئ العربي خطورة التخلف عن ركب الحضارة.
الملاحظة السادسة: إن الباحث لم يركز على الدبلوماسية بمصطلحاتها التقليدية أو الحديثة، ولا على المسار الثنائي والمسارات المتعددة أو على الجانب الاقتصادي في الدبلوماسية بل أيضا ركز في القسم الثاني من الفصل الرابع على الجوانب القانونية للتكنولوجيا المتقدمة، ومزاياها وأيضا مخاطرها وتحدياتها.
وأخيراَ أود أن أعبر عن تهنئتي للباحث المستشار محمد صالح، وأتمنى له التوفيق في العمل الدبلوماسي وفي البحث العلمي.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 5143 - الأربعاء 05 أكتوبر 2016م الموافق 04 محرم 1438هـ
للدبلوماسية رجال،،،،،مبروك دكتور محمد فأنت سفيرا للدبلوماسية،
هكذا يجب أن يكون الدبلوماسي ..من يعطي جهده ووقته وعلمه لخدمة وطنه.