كنت في زيارة عمل قريبة إلى دولة الإمارات العربية الشقيقة، وفي الحقيقة لم تكن صدفةً أنني تعمدت زيارة «سوق نايف»، وهو أحد أقدم الأسواق في الإمارات، وربما في دول الخليج.
الانطباع العام بعد الزيارة، أنني كنت مذهولاً ومندهشاً ليس من تطور السوق ولا تقنياته الحديثة، ولا مساحته الشاسعة، أو تجهيزاته بمواقف سيارات، فهذا ليس فيه من الأصل فهو تقريباً نسخة من سوق المنامة القديم بكل مشاكله التي نعرفها جميعاً، من انعدام مواقف السيارات، وضيق المساحات والشوارع، وقلة الخدمات العامة، وعدم وجود تكييف وغير ذلك.
لكن مبعث هذا الاندهاش كان حجم الصفقات التي تعقد في السوق، على رغم المظاهر التي وصفتها، لم تتغير هذه الأسواق كثيراً عن وضعها التي بنيت عليه منذ عقود طويلة من الزمان، بعضها عمره الآن 100 عام أو يزيد، ولأنها بنيت غالباً في قلب المدن، ووسط تجمعاتها السكنية، كسوق لأجدادنا في هذه المناطق، فكان التمدد أو التوسيع أو التطوير الأفقي مرهوناً بما حول هذه الأسواق من مساحات في الغالب لم تتوفر لمعظمها، فيما تقلصت مساحات بعض هذه الأسواق، أو اندثرت كلياً بسبب زحف العمران عليها أو نفور الناس من التوافد عليها، لتهالكها وظهور المجمعات التجارية المكيفة وغير ذلك من عوامل.
طوال فترة زيارتي للسوق التي استمرت ساعات، أدقّق وأراقب في مظاهر المعاملات، والتجارة الرائجة لأقصى درجة، لم أستطع أن أمنع نفسي وبشكل تلقائي من التفكير في حال سوق المنامة، ولماذا يعاني تجاره من الكساد الذي يكاد يهلكهم؟ والشكاوى التي لا تنتهي من أحوال السوق ومرافقه وأوضاعه، فيما أن حال سوق بمواصفات مماثلة تقريباً يعج بالحركة والتجارة والرواج – نسأل الله أن يزيدهم من رزقه ويرزقنا الخير جميعاً- بل إنني علمت أن تجاراً من دول الشرق والغرب يأتون فقط بغرض زيارة السوق وإتمام الصفقات التجارية، ثم ينصرفون منه إلى المطار مباشرةً، سواءً قضوا ليلة أو ليلتين لإتمام عملهم، لكن تركيزهم الكامل على زيارة السوق، وليس أي شيء آخر في دبي العامرة بالمرافق الجذابة للسياح. وبات السوق أشبه بمعلم جذب سياحي مستقل، يُضاف إلى قائمة طويلة من عوامل الجذب السياحي في دبي.
تحوّل «سوق نايف» بإمكاناته الضعيفة إلى سوق عملاقة للتصدير وإعادة التصدير، وإبرام الصفقات والوساطات التجارية، ومن حول الدكاكين الصغيرة التي تعج بصفقات مليونية تعمل منظومة كبيرة من شركات الشحن والتفريغ والتوصيل، والمصارف التي تموّل الصفقات، وشركات الصرافة والتحويلات التي راحت تبحث عن أي منفذ، ولو صغير للبقاء بجوار «خلية النحل» التي لا تهدأ ولا تكف عن الأزيز وجلب الأموال.
لكن لماذا؟ بصريح العبارة هناك عدة أسباب، ربما أكثرها وضوحاً ما يتعلق بجانب الحكومة من جهة، وبجانب التشريع النيابي من جهة ثانية، وأخيراً بجانب التجار وهم عنصر أساسي في الموضوع من جهة ثالثة.
الحكومة في دبي وفّرت بنية تشريعية جاذبة متميزة للمستثمرين بما فيها المنطقة الحرة في «جبل علي» التي ساعدت على توطين الكثير من الصناعات التحويلية، وتجارة الترانزيت في دبي بشكل غير مسبوق. هذه المنظومة الاستثمارية المتكاملة وعلى رأسها قوانين الاستيراد والتصدير والشحن البسيطة الميسرة «غير المعقدة أو المتضاربة بين الجهات الحكومية المختلفة» جعلت من كلفة الاستيراد والتصدير والبيع والشراء أقل، وهذا يعد عامل جذب قوياً لتجار المنطقة جميعاً، لتخليص صفقاتهم في قلب دبي، ومن ثم التوزيع عبر وسائل شحن ميسرة وموثوقة لباقي دول الخليج.
جذب التجار في حد ذاته مكسب كبير لقطاع السياحة؛ لأن التاجر ينفق وبإمكانه أن ينفق إن لم يكن على وسائل الترفيه، فأقل شيء سيكون الإقامة في الفنادق وتناول الطعام واستخدام سيارات الليموزين أو الأجرة.
الأمر الثاني الملفت دائماً في دبي، أن التشريع يخرج متوافقاً مع مصالح الاقتصاد، وبمشورة التجار الواعين لمصلحة بلدهم، ودون الإخلال بحق المواطنين بالطبع، وكلنا نرى كيف يتعامل الشيخ محمد بن راشد مع أي موظف مقصر أو متهاون في مصلحة تاجر، لأنه يعلم جيداً أن هذا الموظف يهدّد البلد من خلال «تكريه المستثمر» في الاستثمار أو تعطيل مصالحه! وهذا يختلف عمّا نراه في البحرين سواءً من عدم وضع عقاب رادع للموظف المتهاون أو المتكاسل، أو حتى ما نلمسه من ضعف الأداء التشريعي لمجلس النواب وعدم دراية عدد كبير منهم بقواعد الاقتصاد وربما أبجديات السوق!
أما فيما يتعلق بالتجار، فلا شك أن «شطارة التاجر» عامل في غاية الأهمية في المنظومة التجارية، سواءً من حيث نوعية البضائع التي يجلبها، أو قدرته على خفض الأسعار من مصادرها بالشكل الذي يساعده على تقديم سلعته أو خدمته بجودة وكفاءة وسعر مناسب، وهذه هي المعادلة الحقيقية لنجاح أي تجارة، أما عندنا في سوق المنامة فتجد محلات تبيع بضائع قديمة عفى عليها الزمان، وبأسعار مرتفعة، أو بضائع مقلدة أو غير مناسبة للوقت الراهن، فلماذا يتكلف المستهلك عناء القدوم إليك إذا كانت هذه بضاعتك؟
تطوير السوق القديم في المنامة يتطلب خطةً شاملةً تبدأ من عقل الحكومة التي تخطط وتضع الاستراتيجيات؛ وعقل النائب الذي يشرع بعلم ودراية؛ وعقل التاجر الذي يختار بضاعته ونوعية تجارته بعناية ودقة، ويبذل جهداً في الانتقاء والتوصل إلى أفضل سعر لخدمة الناس، عندها ستجد سوق المنامة يعج بالتجار والمواطنين حتى لو كان على وضعه الراهن! مع إقرارنا بأن الوضع الراهن يحتاج إلى التطوير بالطبع.
إقرأ أيضا لـ "أحمد صباح السلوم"العدد 5139 - السبت 01 أكتوبر 2016م الموافق 29 ذي الحجة 1437هـ
أحسنت ابن سلوم. مقال أصاب كبد الحقيقة. نحن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى تشريعات تصب في مصلحة الاقتصاد وخفض التكلفة على التجار. ولكن للأسف ما نراه من تشريعات في مملكتنا الحبيبة من تعقيد ومن زيادة في الرسوم فكلها عوامل تنفر التجار من الاستثمار في البحرين. نسأل الله تعالى أن يوفق هذا البلد الحبيب لكل خير