قبل 66 يوماً تحدثت عن عبد الفتاح مورو. قلت حينها بأن هذا الرجل «أثبتَ تميُّزه في التفكير وتوخِّي الاعتدال منهجاً والانفتاح ضرورةً، على رغم أن التاريخ ظَلَمَه والحاضر جَفَاه». وعدَّدت 7 أسباب تدفعنا لأن نستمع لحديث مورو وخصوصاً الـ 17 حلقة هي مجموع «شهادته على العصر».
لقد قال أشياء كثيرة في ذلك البرنامج، استلّها من خلاصة تجربته في الحياة. ومن ضمن الأشياء التي تحدث عنها مورو (وهو محام وقاضٍ في نفس الوقت) هي صورة الوضع الحقوقي والقانوني الذي كان سائداً في بلده تونس منذ الستينات حتى نهاية العقد الأول من الألفية الحالية.
هل تتذكرون الحبيب بن عاشور (1913– 1999)؟ إنه النقابي التونسي البارز منذ العام 1963 حين أصبح أميناً عاماً للإتحاد التونسي للشغل. وقبل ذلك كان مناهضاً للإستعمار الفرنسي منذ العام 1947، ودخل السجن أربع مرات، مرة قبل الاستقلال وثلاث مرات بعد الاستقلال.
يقول عبد الفتاح مورو بأن الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة أراد إنزال العقاب القاسي على الحبيب بن عاشور بسبب كونه معارضاً سياسياً ونقابياً عنيداً. وكان من عادة بورقيبة أنه (وعبر وسيط) يتخيّر من القضاة أضعفهم تمسكاً بالقِيَم (كي يقوم بإنزال الأحكام التي يريدها ضد خصومه)، لذلك اختار أحد القضاة كي يحكم بقسوة على الحبيب بن عاشور.
يقول: «بعد أن قضى ذلك القاضي في ملف المناضل النقابي ذهب يتزلّف ويلتقي بورقيبة خلال احتفالات ذكرى تأسيس الجمهورية، فقدَّم نفسه قائلاً: سيدي أنا القاضي أنا الذي حَكَمْتُ على الحبيب عاشور، فلم يرد عليه بورقيبة وأشاح بوجهه عنه. وبعد يومين عُقِدَ المجلس الأعلى للقضاء، ونُقِلَ خطاب الرئيس داخل المجلس صوتاً وصورة، فقال بورقيبة لوزير العدل: أين القاضي الذي جاءني قبل يومين. قال الوزير: سيدي هذا القاضي ليس عضواً لدينا في المجلس. فقال بورقيبة: هل أنا قلتُ له احْكُم على الحبيب بن عاشور؟ قل له: أنتَ قررتَ الحكم عليه، وأنا كرئيس للجمهورية أعفو عن الحبيب عاشور». وكان ذلك إهانةً للقاضي الذي باع قيمه واستقلاله.
حادثةٌ أخرى يرويها عبد الفتاح مورو كذلك وهو أن أحد القضاة وبعدما شاخ ومرض أسرَّ له وعينه تدمع قائلاً: يا عبد الفتاح، إنني وعندما بلغت الرابعة والستين أردتُ أن يُمدَّد لي في الوظيفة، فقصدت الرئيس بورقيبة، وقلت له إنني صاحب ماضٍ عريق منذ أيام الاستعمار، بل وحتى بعد الاستقلال، فأنا الذي تصدّيتُ لـ «المؤامرة» وأنا الذي أصدرتُ الأحكام بالإعدام (على أعضائها).
ويضيف مورو نقلاً عن ذلك القاضي: «قلت لبورقيبة بأن كاتب الدولة للرئاسة اتصل بي وقال لي بأن الرئيس يُسلِّم عليك، وأرجو أن تأخذ ورقة وقلم، ثم أمْلَى عليّ الأسماء والأحكام التي تستحق الإعدام. فردَّ بورقيبة على ذلك القاضي قائلاً: إسمع، إن كنتَ قد حَكَمتَ بالعدل فهذا واجبك، أما إذا كنتَ قد حَكَمتَ بالظلم، فالنار تنتظرك. يقول ذلك القاضي بأنني وحينما سمعتُ ذلك الكلام وقفت ولا أدري ماذا فُعِلَ بي، وخرجتُ ووقفت على السُّلم كي أنزل فانزلقت رجلي وسقطت من 23 عَتَبَة، وعندما جاء الحضور كي يُسعِفوني: قلت: لا، فهذا الذي أستحقه، وهذا بداية عقاب الله لي».
وعبد الفتاح مورو كعادته في شهادته على تاريخ تونس كان منصفاً فيما ينطق، في جوانب السلب والإيجاب. لذلك يشهد ويقول بأنه وأمام تلك النماذج السيئة من الظلم كان هناك «قضاة زانوا القضاء التونسي أمثال صلاح الدين بن جعفر ومحمود باباي وزين العابدين شمّام ومحسن برناز».
يضرب مثالاً على ذلك بالقول بأنه حضر محاكمات يرأسها القاضي صلاح الدين بن جعفر، «وكان يقضي ضد إرادة النيابة العامة المكلفة من بورقيبة، وكان يفضح التدخلات في الجلسة (كما حدث في محاكمة أحد المحامين المعارضين). يفتح الملف ويقول: بسم الله الرحمن الرحيم نبتدئ هذا الملف بهذه الورقة: من رئيس الكتابة الخاصة لرئيس الجمهورية إلى السيد الوكيل (النائب) العام وبعد .. فقد كلفني السيد رئيس الجمهورية بأن يعرض عليكم هذه الأوراق المتعلقة بالمتهم، وهو يرغب في محاكمته، وإصدار حكم قاسٍ في شأنه لكونه من المنتمين إلى «اليوسفية»، ثم قضى بن جعفر بعدم سماع الدعوى»! وكان ذلك موقفاً جريئاً من الرجل. بل إن مورو كان يشير إلى بعض القضاة كان يطلب إعادة التحقيق في القضايا.
ويضيف مورو أنه وبعد أحداث يناير 1973، كان جالساً في مكتب القاضي محمود باباي، فإذا بوزير العدل يتصل به. «فقال الوزير للقاضي بأن رئيس الجمهورية قد اختاره ليرأس محكمة أمن الدولة التي ستقضي في شأن الحبيب عاشور وكل القيادات التي كانت تقود الاتحاد العام للشغل، وقد اختارك لصرامتك، فردّ باباي لوزير العدل: سَلِّم على رئيس الجمهورية وحيِّهِ واشكره على الثقة، وقل له أنا مجرَّد قاضٍ لا أقضي إلاّ حسب ملف، وإذا كان هذا الملف ناطقاً بالإدانة فسأقضي بالإدانة من غير توصية، أما إذا كان الملف خالياً من أيّ ركنٍ من أركان الإدانة، فلن أقضيَ إلاّ بعدم سماع الدعوى، مراعاةً لواجبي بين يدي الله، لذلك لم يَخْتَرهُ بورقيبه واختار غيره» الذي ذكرناه.
أختم بما يحضرني هنا من قول للشيخ الشعراوي رحمه الله، ذكره في تفسيره وهو أننا لا نقول للقاضي العادل أنه «قَاضٍ عادل»، بل نقول «قاضٍ عَدْل»، أي: كأن العدل قد تجسّم في القاضي؛ وكأن كل تكوينه عدل».
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5133 - الأحد 25 سبتمبر 2016م الموافق 23 ذي الحجة 1437هـ
هكذا يرى أمر قضية القضاء في زمن بورقيبة و غيره من حكام العرب الطغاة و المستبدين ـ حاكم لا يتدخل في حكم القاضي و يغضب حينما يلمح إليه أنه جامله و حكم بما يرضيه ـ هنا ينتفض و يربد وجهه و كأنه أعتى حراس العدل و حماة القانون . و الحقيقة أنه من وراء الستار أوعز إليه عن طريق البطانة الفاسدة باتخاذ ذلك الحكم الذي لا يرضيه سواه . و هو أي الحاكم دوما فوق الظنون و الشبهات . هكذا يدون التاريخ بطولاتهم المكشوفة .
في دول عربية فيها كثير من أمثلة القضاة السيئين أهم شيء المال عندهم ....
عن رسول "ص" أنه قال: من ولي القضاء فقد ذبح نفسه بغير سكين