تكثفت في الأسابيع الأخيرة الحملات السياسية الإعلامية الأميركية، على عدد كبير من الدول العربية والإسلامية، والحجة هي أنها دول دكتاتورية ترعى الإرهاب وتفرّخ الإرهابيين، وتؤيد محور الشر!

وليس في ذلك جديد، ذلك أن الحملة مستمرة منذ حوادث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 الدموية، التي فتحت كل أبواب الهجوم على العروبة والإسلام، وليس فقط على العرب والمسلمين، لكن الجديد أو اللافت للنظر هو أن إدارة الرئيس الأميركي بوش ومطبخه السياسي، الذي يديره ويوجهه صقور اليمين المحافظ شديد التطرف والتهور، قد صعدا في الفترة الأخيرة من الهجوم علينا لأسباب مختلفة، في مقدمتها طبعا بدء العد التنازلي لانتخابات الرئاسة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، إذ تصبح الشهور الباقية نارا على نار، يطولنا لهيبها حتما...

ونستطيع أن نرصد أصواتا متعددة في المجتمع الأميركي التعددي، لكننا نتوقف أمام صوتين بارزين في هذا الشأن، يدلان على مدى الاندفاع اليميني والمتشدد في السياسة الأميركية الآن وفي المستقبل، وعلينا أن نستعد لصد ضرباته...

الصوت الأول محجوز بالضرورة للرئيس بوش نفسه، الذي يحاول من حين إلى آخر أن يميز خطابه السياسي الإعلامي عن خطاب الصقور العتاة في إدارته، أمثال نائبه ديك تشيني ووزير دفاعه رامسفيلد ونائب وزير الدفاع وولفوفيتز، فضلا عن صقر الصقور ريتشارد بيرل مهندس الحروب والصراعات في الإدارة، لكنه سرعان ما يعود إلى كهف اليمين هذا...

ومن قراءة خطاب الرئيس بوش السنوي عن «حال الاتحاد» الذي ألقاه الأسبوع الماضي (21/1/2004) نستنتج أنه دشن حملة إعادة انتخابه، بإظهار نفسه في صورة الرئيس القوي الشجاع في دولة قوية شجاعة، لن يخاف أحدا ولن يستأذن أحدا ولن يتوقف عند حد، إذا ما رأى أن الأمن الأميركي مهدد، مركزا بذلك على ترسيخ نظريته بشأن الحرب الوقائية، التي تعطي أميركا الحق - بصرف النظر عن القانون أو الشرعية الدولية - في شن الحرب فورا ضد من تعتقد أو تشك في أنه يمثل تهديدا للأمن القومي.

ومنذ أن أعلن بوش حربه ضد الإرهاب عقب أسابيع من هجمات سبتمبر 2001، بغزوه أفغانستان، ثم بحربه ضد العراق حتى احتلاله في مارس/ آذار - إبريل/ نيسان 2003، وعقيدة الحرب الوقائية مهيمنة على السياسة الخارجية والدفاعية الأميركية، بصرف النظر عن أية مخاطر وكلف ومعارضة، فالهدف هو تدمير «محور الشر» الذي كان يضم في البداية إيران والعراق وكوريا الشمالية، ثم أضيفت إليه دول مثل سورية وليبيا وكوبا، ووضعت دولة أخرى بقرب هامشه استعدادا لضمها في الوقت المناسب!

وأدى ذلك ليس فقط إلى خوض حربين في أفغانستان والعراق ولم تحسمهما بنصر واضح حتى الآن، بل أدى أيضا إلى إغراق أميركا في ظل هذه العقيدة، في دوامة من الهواجس الأمنية وما تؤدي إليه من تقييد للحريات الداخلية، فضلا عن الأعباء الاقتصادية المتزايدة، ما أدى إلى زيادة العجز غير المسبوق في الموازنة الأميركية، على نحو يستغله الحزب الديمقراطي المعارض، في حملته الانتخابية المضادة.

ومقابل الاستمرار في تبني عقيدة الحرب الوقائية هذه، قد تبنى الرئيس بوش معها عقيدة بعض غلاة المسيحيين الصهيونيين المتطرفين، في حتمية مواجهة «الشر الإسلامي» مولد الإرهاب ومفرخ التطرف، بمزيد من القوة العسكرية الساحقة والقهر السياسي الماحق، الأمر الذي أدى هو الآخر إلى إغراق أميركا في حال من الهوس الديني عن «الإسلاموفوبيا»، لا تختلف كثيرا عن الهوس الديني الذي أصاب تنظيمات إسلامية متطرفة جديدة تورطت في الإرهاب الداخلي والخارجي، وهكذا صار هذا النوع من الهوس الديني المتعصب محركا أو صانعا للسياسات والنشاطات هنا وهناك تارة باسم تدمير «الشر الإسلامي»، وتارة أخرى باسم تدمير «الشر الأميركي» ونحن بين الشرين في مأزق!

وعلى رغم أن الرئيس بوش حاول في خطابه عن حال الاتحاد، الابتعاد قليلا عن حلف حلفائه ومساعديه المتطرفين، وعلى رغم تحوله من التركيز على تدمير محور الشر، إلى التركيز على رسالة أميركا «السماوية» في هداية العرب والمسلمين إلى الديمقراطية، مع تجاهل كامل للإرهاب الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، فإن مستشارة الأمن القومي كوندليزا رايس قالت إنه لولا ممارستنا الحرب الوقائية وتدمير محور الشر وخصوصا في أفغانستان والعراق، لما ارتدعت دول أخرى مثل إيران وليبيا وسورية، ولما أسرعت دول أخرى مثل مصر والسعودية في إجراء إصلاحات داخلية... ومازلنا نجني الثمار!!

أرى أن عقيدة اللجوء إلى القوة العسكرية الساحقة هو الحل!

الصوت الثاني وهو من أبرز صقور الإدارة الأميركية ورموز اليمين المحافظ المتطرف، وهو ريتشارد بيرل، أوثق مستشاري الإدارة ووزارة الدفاع خصوصا... والمناسبة الجديدة هي إصداره كتابا مثيرا مع رفيقه في درب التطرف «ديفيد فروم» عنوانه الرئيسي: نهاية الشهر، وعنوانه الفرعي هو كيف تكسب الحرب ضد الإرهاب؟...

ولمن نسي نذكر أن بيرل هو أبرز فلاسفة عقيدة الحرب الوقائية، ومهندس الحرب الأميركية ضد أفغانستان والعراق، وأشد محرضي الرئيس بوش ضد دول عربية وإسلامية مثل مصر وسورية والسعودية وليبيا واليمن ولبنان، فضلا عن كراهيته العنصرية للشعب الفلسطيني، بل للإسلام كدين...

في كتابه الجديد، لا يعتبر بيرل أن الشر ومحوره، قاصر على العالم العربي والإسلامي فقط، ولكنه يرى أن الشر «ينتشر من حول أميركا وعلينا تدميره فورا قبل أن يدمرنا، حتى لو كان كامنا بين حلفائنا القدامى في أوروبا، أو في داخل أميركا ذاتها...».

ولذلك نقرأ في هذا الكتاب الأحمق أفكارا أكثر حماقة وجهلا، بشأن نظريته في تدمير الشر وكسب الحرب الأميركية ضد الإرهاب، تتراوح ما بين تغيير نظم الحكم - بالقوة الأميركية - في إيران وسورية والجزيرة العربية والخليج، حتى محاصرة فرنسا وتقزيم دورها وشل حركتها في الاتحاد الأوروبي... وما بين فرض تغيير مناهج التعليم وإيقاف التعليم الديني وإغلاق المدارس الإسلامية في كل مكان، إلى تغيير ميثاق الأمم المتحدة حتى لا يظل مقيدا لحركة أميركا في شتى الحروب الوقائية، وما بين تفكيك المنظمات الإسلامية والتجمعات العربية، إلى تفكيك أجهزة الأمن والمخابرات الأميركية ذاتها لفشلها في القيام بعملها وتقصيرها في رصد وقمع نشاط الأشرار في العالم، وما بين قتل الإرهابيين في أوكارهم خارج أميركا، إلى عزل البيروقراطيين في وزارة الخارجية الأميركية وطردهم!

وهكذا، عليكم أن تتصوروا فيلا هائجا دخل معرضا صغيرا للخزف، حاملا معه في كل حركة «رفسة» مدمرة!!

لكن الحقيقة أبعد من خطر فيل هائج يدمر خزفا... ذلك أن هذا الفيل الهائج، هو العقل المفكر والمخطط والمدمر والمؤثر فعلا في فكر وسياسة مطبخ اليمين المحافظ من حول الرئيس، الذي لم يعد مقصورا على تشيني ورامسفيلد وولفوفيتز وكوندليزا رايس، بل إنه متشعب ومتغلغل في شرايين الحكم بدرجة لم تحدث في ظل أشد الإدارات الجمهورية محافظة وتشددا، ونعني فترة حكم الرئيس السابق ريغان، فقد تمكن هذا «اللوبي» من الشرايين الأهم في ظل إدارة الرئيس الحالي بوش، وهنا تكمن خطورة الآتي إن نجح بوش في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو الأمر المرجح حتى الآن...

وما نعنيه هو أن هذا التيار العدواني الذي يقوده بيرل وجماعته، قد قوي وازدهر في أميركا، وهو الذي صاغ «فلسفة الحكم» للرئيس بوش الابن، حتى قبل أن ينجح في انتخاباته الأولى العام 2000، وهو بالتالي الذي قفز بعد النجاح وعلى مدى السنوات الأربع الأخيرة إلى احتلال أهم مفاتيح التحكم في شرايين الحكم، وخصوصا البيت الأبيض ووزارة الدفاع وأجهزة الأمن والكونغرس والإعلام، ومن الواضح أنه نجح حتى الآن في فرض أفكاره وسياساته على الرئيس وحكومته، وكلاهما كان متلهفا ومستعدا لقبول هذه الأفكار وتطبيق تلك السياسات!!

الأخطر هو القادم، وقد استبق بيرل وفروم الحوادث، وخصوصا الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وأصدرا كتاب نهاية الشر هذا، ليكون هو «مانفستو» حكم الرئيس بوش، في فترته الثانية 2004 - 2008، الأمر الذي يبشر بأن الشر ليس له نهاية، وإنما هو بدأ الآن أطول مرحلة جديدة، يشير إليها بيرل بأنها ستكون الأعنف، لأنها مرحلة خوض «الحرب الوقائية» العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ليس ضد «محور الشر» بتعريفه القديم الذي يضم دولا عربية وإسلامية فقط، ولكن ضد محور الشر بتعريفه الجديد، الذي يمتد عالميا من كوريا الشمالية والصين شرقا إلى فرنسا وألمانيا غربا، مرورا بروسيا و«الشرق الأوسط» بالضرورة.

لحسن الحظ إذن اننا لم نعد وحدنا نشكل محور الشر بأعضائه الأصليين وأعضائه الاحتياطيين والمرشحين، لكن الأمر الأسوأ هو أن هذا اللوبي اليميني الشرير، يرسخ لسياسة «أميركا ضد العالم» ولأن أميركا هي أقوى قوة عسكرية اقتصادية فهي القادرة على قهر الجميع من دون منازع، من كوريا إلى فرنسا، ومن الصومال حتى روسيا، فكل هؤلاء أعداء وأشرار، أما حين تفتش في أفكار هذا اللوبي، وتبحث بين سطور كتاب بيرل، فلن تجد من يعتبرونه صديقا مخلصا سوى «إسرائيل» التي تستحق، وفق الكتاب، كل دعم وتأييد حتى تساعد في القضاء نهائيا على الشر في «الشرق الأوسط»، وحتى تتحقق أحلام الصهيونية وتعود مملكة صهيون، مهيمنة على المنطقة وظاهرة للعرب والمسلمين الأشرار!!

أمام مثل هذه الأفكار - التي تتحول إلى سياسات تحكم أهم وأقوى دولة في العالم - يقف الإنسان حائرا مندهشا، وخصوصا حين تثير هذه الدولة كل الضجيج بشأن التطرف والإرهاب... فما هي الفروق الحقيقية بين هذه الأفكار المتطرفة دينيا وسياسيا وعسكريا، وبين أفكار جماعة طالبان وتنظيم القاعدة، وما هي الفروق الحقيقية بين أحاديث ريتشارد بيرل وأحاديث أسامة بن لادن، أيهما يتحدث الآن وأيهما يفكر ويدير وينفذ، أيهما الإرهابي الأكبر وأيهما الإرهابي الأصغر، وأيهما الأكثر شرا والأعظم خطرا...

بقي لي اقتراح متواضع، وهو أن تتولى الإدارة الأميركية، رصد جزء من موازنة «دعم الديمقراطية في الشرق الأوسط» وتغيير العقول والأفكار، للإنفاق على ترجمة مانفستو الشر الذي ألّفه بيرل وصاحبه، وتوزيع نسخة لكل مواطن وخصوصا في بلادنا، مع تكليف نخبة مختارة من جماعة المتأمركين العرب، بمتابعة تأثير المانفستو في هداية عقول الأشرار، لعلها تهتدي إلى طريق الصلاح والإصلاح، طريق الهداية الأميركية!

خير الكلام:

قال الشاعر:

وللحلم أوقاتٌ وللجهل مثلها

ولكن أوقاتي إلى الحلم أقربُ