اعلم، وفقك الله، أن السبب الذي لأجله نشأت الفتن، ووقعت الحروب حتى كشفت عن ساقها، وعمّت الوقائع جميع أقطار المملكة وآفاقها، هو طلب الرئاسة!!
هكذا تَحَدّث مُحيي الدين بن العربي (ت 637 هـ/ 1240م)، الشيخ الأكبر والعارف الشهير قبل نحو ثمانية قرون، ولو تُرك للناس أن يعيشوا بعيداً عن شهوة الملك والاستحواذ وآفة الجشع وأنانية الغريزة لعاشوا آمنين مطمئنين في دعَةٍ وسرور وأمن وأمان.
هل للمناسبات السعيدة القدرة على كبح جماح الكراهية التي انطلقت من عقالها وقوّضت دعائم الاستقرار الاجتماعي والنفسي في مجتمعاتنا؟ أم أن هذه المناسبات باتت عادات وأعرافاً نحييها دون وعي وبصيرة؟ ودون أي تمثّل واستحضار كامل لمقاصدها الروحيّة والتربوية؟
أعتقد بأن هناك وعياً خاطئاً نشأ عند فريقين من الناس، الفريق الأول هم عدد من علماء الدين - وليس جميعهم - من الذين أخفقوا في تحريك الدين كثقافة جامعة وبرنامج حياة ولغة حب وسلام، وجرى - تبعاً لذلك - تحويل الدين إلى برامج طقوسية وثقافة خصامية مع الخارجين عن دائرته ومع الحياة على حدّ سواء، ومن هنا نشأ التدين الشكليّ.
أما النوع الثاني، فهم أصحاب المصالح من طلَّاب الدنيا، الباحثون الراكضون اللاهثون خلف فرص التكسب ومطاردة الغنائم، وهؤلاء أشبه بصائدي الجوائز في الغرب الأميركي، ويتكيّفون في الغالب مع الظروف ويستبدلون تحالفاتهم القديمة بتحالفات جديدة تضمن تدفق مكتسباتهم وعدم انقطاعها، فتارة هم مع الشيطان وتارة هم مع راية لا إله إلا الله، وهنا يترسخ التدين المغشوش، وتكبر ظاهرة التدين الشكلي.
ويُروى أن سَلْمان الفارسي نَزَلَ عَلَى نَبَطِيَّةٍ بِالْعِرَاقِ فَقَالَ لَهَا: هَلْ هُنَا مكانٌ نَظيف أُصَلي فِيهِ؟ فَقَالَتْ: طَهِّرْ قَلْبَك وصَلِّ حَيْثُ شِئْتَ (لسان العرب، ابن منظور 13/ 522).
وأعتقد أن الأعياد قد تكون فرصة سانحة ومناسبة لوصل ما قطعته سكاكين الطائفيّة في مجتمعاتنا التي تضيق فيها مساحة الاعتراف بالآخر، وتنعدم فيها فرص الإصغاء له أيضاً كلما تم تطويع الدين لمصلحة الدنيا، واستيقظت الفتاوى المتوحشة للفتك بخصوم جدد.
الأعياد وُجدت لتذكّر الناس بالمحبّة التي جاءت للناس كافة رحمة للعالمين، ونحن نحتاج فقط إلى من يذكرنا بها في الحياة لأننا نسيناها في زحمة المعارك والصراعات الظاهرة والخفية. نحتاج إلى من يُذكرنا في خطبة عيد الأضحى أننا مسلمون إخوة، وأننا إن تنازعنا فشلنا وذهبت ريحنا، نحتاج إلى من يحرّك فينا الرغبة في استعادة لغة الحب والسلام والاحترام بين الطوائف والأديان، هذه اللغة الجامعة التي تجمع البشر على أرضية واحدة عمادها الكرامة الانسانية بعيداً عن لونه وعرقه ومذهبه وديانته.
يقول العلَّامة محمد حسين فضل الله (ت 2010م) في كلمة موحية: «في عيد الأضحى، نحتاج إلى التّضحية بكثير من الأوضاع التي عشناها، والتي أدّت إلى أن نسقط في كثير من المؤامرات... علينا أن ندرس كلّ هذه، لنصل إلى قناعة ثابتة؛ أنّ معظم مشاكلنا نشأت من أنانيّات شخصيّة وعائليّة وإقليميّة وحزبيّة وسياسيّة وطائفيّة، والأنانيّة تدفعك إلى أن تفكّر أن الساحة هي لك وحدك دون سواك: أنا موجود وليس هناك غيري، لا أسمح لأحد، ولا وجود لأحد أمام وجودي...
وهذه الأنانية هي ما استغلها المستعمرون والظالمون والطغاة لتفريقنا... استطاعوا من خلالها أن يجعلونا نحقد على بعضنا البعض أكثر مما يحقد المؤمن على الكافر... ذلك لأنّنا مرتبطون بأنانيّاتنا أكثر من ارتباطنا بديننا، ومرتبطون بمواقفنا الضيّقة أكثر من ارتباطنا بساحاتنا الكبرى».
إلى أن يقول: «إذا كنّا نريد أن نضحّي في هذا العيد، فإنّ علينا التضحية بكلّ هذه المشاعر المتوتّرة والمتشنّجة التي ينفخ فيها الشّيطان ليحوّلها إلى جمرة تتوقّد لتطفئ إيمان الإنسان عندما تلتهب بحالة الكفر... إذا أردتم أن تضحّوا: لا ترجعوا إلى بيوتكم لتضحّوا بخروف أو شاة وينتهي كلّ شيء، بل أن تضحّوا بكلّ عداواتكم التي تضمرونها لإخوانكم، وبأحقادكم التي توجّهونها لأصدقائكم... حاولوا أن تضحّوا بكلّ الأطر الضيّقة التي تحبسكم عن إخوانكم». (كتاب من أجل الإسلام، ص 321 - 323).
إننا مجتمعات أصبحت تُدمن الدوران حول الحفر بدل أن تردمها، وتتفرج على الأزمات عوض أن تعالجها، وتبتكر خلافاتها بأكثر مما تنشغل بأمر المشتركات التي تجمعها ولهذا تخلفنا وتقدم غيرنا.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 5120 - الإثنين 12 سبتمبر 2016م الموافق 10 ذي الحجة 1437هـ
الطائفية مرض ينخر في جسد الأمة و هذا المرض اصابنا في عام ١٩٧٩
ولنكن أكثر وضوحاً نبعد العداوات المذهبية عن السياسة ونركز على ما يجمعنا وهي المواطنة هي التي يجب أن نشترك بها في العمل السياسي وهي وحدها التي لا تفرقنا ومعتقداتنا نجعلها بيننا وبين خالقنا هو الذي يحاسبنا
أحسنت أستاذ وسام, من أحلى ما قرأت ويلامس واقعنا جزاك الله خيرا وبارك الله بك وإياكي أعني وإسمعي يا جارة! وأحسن نقطة أعجبتني هي هذه!
هناك عدد من علماء الدين - وليس جميعهم - من الذين أخفقوا في تحريك الدين كثقافة جامعة وبرنامج حياة ولغة حب وسلام، وجرى - تبعاً لذلك - تحويل الدين إلى برامج طقوسية وثقافة خصامية مع الخارجين عن دائرته ومع الحياة على حدّ سواء، ومن هنا نشأ التدين الشكليّ.
شكرا عزيزي
سعيد برأيك