خذوا الحقيقة من أفواههم، انهم أطفالنا، «صغيرات... وصغارا» «مراهقات ومراهقين»إنها شهاداتهم التي تعكس عمق اختلالات مجتمعاتنا، وتدلنا على النواقص، لا بل هي تصرخ في الوجوه، تعبّر عن حس متدفق، عميق عما يدور حولها، تعكس الاضطراب، والبعد العاطفي، والفجوة التي تتعمق بفعل المؤثرات والتفاعلات التي نحن جميعا طرفا أساسيا فيها. ومن قمة هذه الشهادات، لابد للمرء أن يسأل، هل أصغينا نحن المربين إليهم ما يكفي؟ هل تعرفنا على دواخلهم، قلقهم، عواطفهم، أمزجتهم، طموحاتهم، أحلامهم؟ هل نعمل دائما للمحافظة على صورتنا من خلالهم؟ أسئلة لا يجوز التغاضي عنها، أو إهمالها، ليس لسبب، إنما لأنهم «المستقبل»، وها هو المستقبل ثانية ماثلا بين أيدينا. يمنحنا فرصة أخرى في حياتنا كي نضيف شيئا، نصنع خبزا، نعجن صلصالا، نترك بصمة ما، ونغرس بذرة يافعة تتشكل من أجل هذا الوطن... من أجلهم أبناؤنا فتيات وفتيان!
فعلى هامش فعاليات ندوة الفتاة العربية المراهقة (الوقع والآفاق) التي عقدت في الفترة ما بين 17 و19 يناير/ كانون الثاني 2004، والتي أقيمت في مقر مركز معلومات المرأة والطفل بجمعية رعاية الطفولة والأمومة بالمنامة، وبالتعاون مع مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث (كوثر) بتونس، وذلك لمناقشة تقرير كوثر الثاني لتنمية المرأة العربية، بمشاركة بعض الجهات الحكومية والأكاديمية والأهلية في فعاليات الندوة وثلة من الاختصاصيين والأكاديميين المهتمين بشئون الطفولة والمراهقة وقضايا المرأة والمجتمع. ومن اللافت، في محاور النقاشات التي تم تداولها على مدى أيام ثلاثة، بعدان رئيسيان تجاذبا حلقات مناقشة التقرير الذي استعرضت أهم أبوابه وهما:
البعد الأول
الذي تمثل في اطروحات القائمين على إعداد التقرير الذين ركزوا في مقدمة تقريرهم على طرح الإطار النظري، وتوضيح أهداف التقرير ومن أبرزها المساهمة في سد النقص الكبير في معرفة المراهقة في البلدان العربية معرفة علمية، وإدماج وجهة نظر المراهقات والمراهقين أنفسهم في رسم ملامح مرحلة المراهقة في البلدان العربية، ورصد بدايات التمييز بين الفتاة والفتى في الأسرة والمدرسة والمجتمع وكيفية تكوين الأدوار الاجتماعية للرجال والنساء في مرحلة المراهقة والتعرف على صعوبات فترة البلوغ والمعارف والسلوكيات المرتبطة بالحقوق الإنجابية وأبعادها الصحية والجسدية والنفسية، وتمكين صانعي السياسيات الحكوميين ومؤسسات المجتمع المدني والباحثين ووسائل الإعلام ومنظمات الشباب والشباب والمراهقين أنفسهم من رصد معرفي لقضايا المراهقة وتحفيز الجهات المهتمة للقيام بدراسات لاحقة معمقة لمرحلة المراهقة تعتمد على أساليب ومقابلات متنوعة، إضافة إلى بناء قاعدة معلومات إحصائية تصلح أساسا لفهم المراهق ووضع الاستراتيجيات متوسطة وبعيدة المدى لتنمية قدراتهم.
وماذا بعد؟
هناك أيضا المنهجية المعتمدة التي تتبعت مؤشرات التنمية البشرية المختلفة في البلدان العربية وأوضاع التنمية فيها واعتماد المصادر الإحصائية المتعددة وتحليل الاتجاهات العامة، وإجراء دراسة نوعية باعتماد المقابلات التي شملت عددا من المراهقات والمراهقين من سبع دول عربية هي (البحرين، تونس، الجزائر، لبنان، مصر، المغرب، واليمن) ونشرت هذه المقابلات في ملحق للتقرير بعنوان «قوس قزح» كشهادات عن حال المراهقات والمراهقين.
البعد الثاني
وهو عن الحوار الذي دار بشأن الأهداف والمنهجية التي لم تسلم من التصدي والهجوم اليومي من قبل بعض الاختصاصيين ومعظمهم الأكاديميون الذين لم يتوقفوا عن نقد منهجية البحث النوعي الذي قامت به «كوثر»، على اعتبار أن المسوحات التي أجريت والعينات التي تم اختيارها «قاصرة» وغير مكتملة لأساسيات أدوات البحث العلمي المعتمد والمعترف به علميا وعالميا، لا بل ذهب بعضهم في صرامته العلمية ليؤكد أن أعداد المراهقات والمراهقين الذين شملتهم العينات قليلة جدا ولم يعتمد في اختيارها الأساليب العلمية المتفق عليها، إنما جاء الاختيار مقصودا، ولا يمثل حقيقة وحجم المجتمعات العربية، كما أن واقع المجتمعات العربية مختلف ولا يصح فيها تعميم الحالات الماثلة أمامنا. وأشار البعض إلى أن البحث الذي شمل الفئة العمرية ما بين 13 و18 سنة، قد تم التركيز فيه على الفئة من 16 إلى 18 سنة وإهمال الأصغر سنا واعتبروا أن هذه الفئة هم الأكثر نضجا وأقرب إلى مرحلة الرشد منها إلى المراهقة. لقد شكل هذا التجاذب إشكالية، على رغم أن معظم الأكاديميين أكدوا أهمية الاستنتاجات التي توصل إليها التقرير وواقعيتها، واعترفوا بأنها قضايا لافتة ومثيرة وتفتح آفاقا جديدة للبحث والدراسة. أما رد القائمين على التقرير، فكان بتأكيد أن هناك مدارس مختلفة لديها منهجيات متعددة ومتنوعة وأنهم ارتأوا الأسلوب العملي والعلمي في آن، فضلا عن أنهم يقرون بأن هذا التقرير لا يمثل تماما المجتمعات العربية، إنما يلقي الضوء على ظاهرة المراهقة في الوطن العربي وذلك للمزيد من بحثها وتتبعها كظاهرة اجتماعية سواء من قبل صانعي القرار أو جهات البحث والدراسة.
وتتكشف للمراقب مفارقات في غاية الأهمية والخطورة، يستدعى الوقوف عند محطاتها، وهي المبررات التي ساقها بعض الأكاديميين في نقدهم وتقييمهم للتقرير، خصوصا تلك التي تعلقت بموضوعات هي في غاية الحساسية بالنسبة إلى المراهقات والمراهقين وللأمهات والآباء على حد السواء، وعلى علاقة كبيرة بمحددات الموروث والقيم والعامل الديني، ومن هذه الموضوعات، سن البلوغ والصحة الإنجابية والحب، وما يرافقها من التعرض للتحرش الجنسي، أو الدخول في تجارب الحب السلبية والإيجابية أو العلاقة بين الجنسين، وهل هناك صداقة أم حب؟ والزواج ومواصفات الشريك وظاهرة تأخر سن الزواج، وموافقة الأهل، والموقف من الخطبة والأمومة والأبوة.
نزعم، أن التقرير قد باشر بقرع الأجراس حول القضايا الآنفة الذكر، ونعتقد أن هناك فضاء شاسعا بين ما يدعيه «بعض» أصحاب العلم والمعرفة وخصوصا «بعض» الأكاديميين والاختصاصيين منهم، فضاء بين ما يقولون وبين ما يمارسون على أرض الواقع، لا بل مدى قدرتهم على ملامسة الواقع ومعايشته «بضمير» وخصوصا عندما يختل عامل الثقة بينهم وبين من يتعامل معهم فلا يستأمنون على الأسرار، أنهم لا يحافظون عليها وهي أبسط أصول مهنتهم، كذلك صمتهم الطويل الأمد، في ربط حل إشكالات وموقف المراهقات والمراهقين عبر مراكز «الشرطة» التي تخلق واقعا معقدا و تجربة قاسية ومريرة يصعب على المراهقات والمراهقين وذويهم الخروج منها بأقل الخسائر وبصحة نفسية متعافية، كما نزعم بأنه على رغم صرامتهم الشديدة في اختيار عينات بحوثهم الميدانية وحرصهم الشديد على إجراء الدراسات والبحوث المختصة بشئون المراهقات والمراهقين ونشرها في المجلات والدوريات العلمية العالمية، والتي بلا شك ستضيف الكثير إلى رصيدهم العلمي والشخصي، إلا أن قصورهم يبدو واضحا كضمير لفئات المجتمع، خصوصا أنهم يعتمدون كاختصاصيين ومعالجين نفسانيين، أيسر أساليب المعالجة المتكئ على «الخطاب الديني التقليدي» والذي لا ننكر «أثره التسكيني» المؤقت كعلاج، إلا أنه لا يحل أزمات المجتمعات المستمرة مع أبنائها والتي تتفاقم يوما بعد يوم وتعقد من وضع المراهقات والمراهقين كما تعقد حل مشكلاتهم وظروف حياتهم ومستقبلهم. وهذا ما يدعو إلى التساؤل عن مدى مواءمة دور هذه الفئة الأكاديمية والاختصاصية ومسئوليتها للمساهمة في التخفيف من معاناة المجتمع وبشكل جاد ورصين!
نعتقد أيضا بوجود ممارسة «لوعي مزيف» يتصف بالتواطؤ، عند تعامله مع القضايا المجتمعية المسكوت عنها، مثل قضايا الفورة الجنسية للمراهقات والمراهقين، وكيفية التعامل معها، فهي كما صرح أحد الأطباء البحرينيين النفسانيين، «تشكل السمة البارزة في حياة هذه الفئة العمرية»، فضلا عن مسائل تتعلق بمؤسسة الزواج وتعدد أصنافها في المجتمعات العربية، والحذر الشديد من التطرق إليها على رغم خطورتها وخصوصا أنها تحدث بعيدا عن علم الأمهات والإباء -أي في السر-، وقضايا أخرى لا تقل أهمية ومترابطة مع ما أشرنا إليه، مثل «الاختلاط بين الجنسين» هذه القضية التي ارتضى الكثيرون منا جعلها مادة يتقاذفها خطاب «الحلال والحرام» من دون الوقوف عند أبعادها وانعكاساتها على تشكيل جيل الشابات والشباب، ناهيك عن إصرار بعض الأكاديميين والاختصاصيين على تسمية ما يمر به المراهقات والمراهقين بأنها «انحرفات» و«أخطاء»، تستحق «العقاب»، ولابد من «تلقين» الأهل الأسلوب المدرسي في كيفية التعامل مع هذه المواقف والإشكالات، في الوقت الذي يضطرب فيه الموقف من إشراك المراهق والمراهقة في إبداء الرأي والنظر في إيجاد مخارج إلى بعض المواقف الصعبة التي يمرون بها وكيفية تعامل المجتمع معها.
وتوصل التقرير إلى حزمة من الاستنتاجات والتوصيات التي تستوجب الإطلاع والقراءة النافذة والمتأنية، هذا إذ علمنا ان انطلاقته تأسست من أفكار وفرضيات أولية نوجز أبرزها:
إن المراهقة ليست مرحلة عمرية وفيزيولوجية، إنها بناء ثقافي- اجتماعي.
إن المراهقة كمرحلة وكظاهرة اجتماعية برزت مع التحول إلى الحداثة في المجتمعات الأوروبية التي أدت إلى تبلور مفهوم الفرد الحديث. فهل ينطبق ذلك على المجتمعات العربية؟ وهل ترتبط فيها المراهقة وإشكالاتها بفكرة الحداثة وتبلور الفرد.
المراهقة هي رحلة يقوم فيها المجتمع بإعداد المراهق أو المراهقة لأداء أدوارهما الاجتماعية المتعارف عليها، من خلال الأسرة والمؤسسات التربوية الأخرى، ومن إشكالاتها مظاهر النزاع مع سلطة الكبار أو صراع الأجيال.
إن الملاحظة العملية تبين أوجه اختلاف وأوجه تشابه بين ملامح شخصيات المراهقات والمراهقين في السلوك والمواقف. فما مستوى التشابه والاختلاف؟ هل التباين كامل وكبير أم يمكن رصد الميول والاتجاهات التي تتسم ببعض الانسجام النسبي وإن في مجالات مختلفة؟
واستنتج أن هناك ضعفا في التعبير المتماسك والمتسق مع ا
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 512 - الجمعة 30 يناير 2004م الموافق 07 ذي الحجة 1424هـ