عصام العدوني - كاتب مغربي (ينشر المقال بالتعاون مع موقع منبر الحرية)
يثير موضوع تبني المساواة الجنسية كقيمة من القيم المشكلة لشرعة حقوق الإنسان في العالم العربي جملة من الإشكاليات القانونية والإيديولوجية والتصورية والتربوية التي يمكن أن نقسمها إلى اثنين الأول: إيديولوجية وسياسية وقانونية؛ والثانية تصورية تربوية تخص تمثل وتعلم واستيعاب وممارسة قيمة المساواة الجنسية عند الرجال والنساء.
إن تبني قيمة المساواة الجنسية وعدم التمييز على أساس النوع، تواجهه إذن:
أ- إشكالية سياسية قانونية وإيديولوجية. فمن جهة أولى، فإن السلطة السياسية لا تعبر عن الإرادة العامة، ولا تسعى إلى الحصول على الإجماع والقبول السياسي لمختلف المكونات المجتمعية، وعلى صعيد المشروعية السياسية فهي ليست نتاج انتخابات حرة ونزيهة، حتى وان لجأت إلى التسويق الانتخابي فإنها تستعمله كديكور لا غير، والفرد داخلها محاصر بأنظمة القهر المادي والرمزي. والقانون الوضعي ليس الإطار الوحيد لضبط وتنظيم الوقائع المجتمعية، فهناك أيضا العرف والعادة والأخلاق والدين. والسلطة والمشرع يبقيان تابعان إلى السلطة الحاكمة التي تحتكر بمفردها سلطة ضبط الحقوق والواجبات وترسيمها وتأويلها انطلاقا من مصالحها وأهدافها الخاصة، مع الإبعاد التام لميكانيزمات التوافق والتراضي والمشاركة، ولصالح رؤية غالبا ما تكون أحادية تحركها إرادة السيطرة والضبط. الأمر الذي ينعكس على الحيز المسموح به للحقوق والحريات بما في ذلك المؤسسات والقوانين والضمانات والآليات المتوافرة لحمايتها، وهو حيز ضئيل جدا مقارنة مع الحيز المتروك للنظام مما يعني إعادة إنتاج السلطوية والمحافظة على الأوضاع السائدة كأوضاع تكرس الولاءات التقليدية وتكبح الحقوق والحريات.
ومن جهة ثانية، فإن الأنساق الفكرية والإيديولوجية والأنماط التربوية والتعليمية، تقف هي الأخرى حجر عثرة أمام حقوق الإنسان. فعلى رغم الجهود الكبيرة لنخبها ومثقفيها من اجل تبني منظومة حقوق الإنسان وتبيئتها داخل التربة العربية، فلم تستطع صياغة فلسفة تربوية عقلانية مستوعبة لمرجعية وثقافة حقوق الإنسان، ولم تستطع إدماجها في البرامج التعليمية وفي المؤسسات التنشئوية المختلفة من أسرة ومدرسة وإعلام… وفي أحسن الأحوال فان هذه المنظومات تبقى متأرجحة بين ثنائية القبول والرفض، التبني والتنديد، ادعاء الخصوصية والانخراط في الكونية.
يتجلى هذا الأمر بشكل أكثر وضوحا في اختلاف الموقف من قيمة المساواة بين الجنسين، المتضمن في عدد من العهود والاتفاقيات والصكوك الدولية ولاسيما اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) الصادرة العام 1979. إن المرجعية الليبرالية الحداثية التي أطرت اتفاقية سيداو كانت وراء تبني مفهوم المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحياة العامة كما الخاصة، في الزواج وتربية الأبناء والجنسية والمواطنة وولوج المناصب… وألزمت الدول المصدقة عليها باعتماد تدابير وإجراءات فعلية لتحقيق المساواة، أي إجراءات اعتيادية، وأخرى استثنائية كالتمييز الايجابي، وهذا الموقف جعلها تعرف التمييز في مادتها الأولى: بأنه أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس وتكون آثاره أو أغراضه، توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في أي ميدان آخر.
إن هذا الموقف الفكري الذي يترتب عليه تخويل المرأة جميع الحقوق الممنوحة للرجل لم يلق تجاوبا من طرف أغلب الدول العربية، التي وان صادقت على الاتفاقية، فقد تحفظت على بعض المواد: 2 التي تخص المساواة بين الرجل والمرأة في التشريعات الوطنية؛ والفقرة 2 من المادة 9 التي تشمل مساواة المرأة للرجل فيما يتعلق بمنح الجنسية للأطفال؛ والمادة 16 التي تشمل مساواة المرأة مع الرجل في كافة الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات الأسرية.
وفي تفسير أسباب التحفظ ولاسيما فيما يخص الأحوال الشخصية يتم الدفع بمقتضيات الخصوصية الإسلامية التي تكفل لكل من الزوجين حقوقاً ومسئوليات متمايزة ضمن إطار التوازن والتكامل وبغية الحفاظ على رباط الزوجية الذي يعتبر مقدسا، وليس كأي رابطة تعاقدية تجري بين مواطنين أحرار ومتساوين في الحقوق والواجبات.
إن مبدأ المساواة في المرجعية الحقوقية بحسب هذا التفسير يتعارض مع القواعد الشرعية والفقهية المنظمة للأحوال الشخصية التي تقوم على اختلاف الأدوار الاجتماعية وتمايزها الذي نص عليه الشارع والمطابق للطبيعة والعقل والدين. ومن ثم فلا يجوز المساس بالقوامة الذكورية، أو المهر المقدم للزوجة من طرف الزوج، أو تعدد الزوجات، أو منع زواج المسلمة من غير المسلم، أو قوانين الإرث… ولتأكيد هذه الخصوصية وإعطائها طابعا مؤسساتيا تم إقرار وثيقة حقوقية إسلامية، في (سبتمبر/ أيلول1989) حيث نص الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان المنبثق عن وزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الإسلامي الصادر بطهران، في الفقرة الثانية من مادته 6 على أنه، «على الرجل عبء الإنفاق على الأسرة، ومسئولية رعايتها».
فإذا كان قد أشار إلى قيمة المساواة في فقرته الأولى من هذه المادة، فإنه في المقابل ركز على تكامل الأدوار وتمايزها، وبالتالي اختلاف حقوق وواجبات كل طرف على حدة، وهذا الاختلاف يفضي في الواقع والممارسة إلى التمييز بينهما على أساس النوع.
لكن يحسب للمغرب ودول أخرى كتونس رفع بعض التحفظات السابقة الأمر الذي يمهد الطريق للانخراط أكثر في الكونية. ففي (18 إبريل/ نيسان 2011) أعلن المغرب، على سبيل المثال، رفع تحفظاته عن بعض المواد باستثناء المادة 2 والفقرة 4 من المادة 15 والفقرة الأولى من المادة 29، لكونها أصبحت متجاوزة بفعل التعديلات المهمة التي أجريت على مدونة الأسرة العام 2004، كإقرار المسئولية المشتركة للزوجين داخل الأسرة، ورفع سن زواج الفتاة إلى 18 سنة، وجعل الولاية في الزواج حقّاً للمرأة الرشيدة، وجعل الطلاق بمراقبة القضاء، وإقرار مبدأ الحقوق المثلى للطفل… وكذا بسبب تعديل قانون الجنسية العام 2007 الذي أصبح يخول الحق للمرأة بأن تمنح الجنسية لطفلها من أب أجنبي، وكرست المقتضيات الجديدة التي أتى بها دستور 2011 تطورا كبيرا في هذا الشأن، حيث إن ديباجته أقرت بسمو المواثيق الدولية التي يصادق عليها المغرب، وجاء الفصل 19 بتمتيع الرجل والمرأة على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية…» وأكد الفصل 146 سعي الدولة إلى إحداث هيئة دستورية هي هيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز.
إلا أن تنزيل هذه المبادئ لايزال تشوبه بعض النقائص ولا سيما فيما يخص إحداث هيئة الإنصاف والمساواة من حيث التركيبة والاختصاصات، حيث لم يخولها المشروع سوى أدوار استشارية، كما غلبت على تشكيلتها التمثيلية السياسية على حساب الخبرة والاختصاص. ولايزال مشروع قانون مناهضة العنف ضد النساء حبيس الرفوف لاختلاف وجهات النظر داخل الائتلاف الحكومي، وبينه وبين المنظمات النسائية والحقوقية. أما مشروع قانون الخادمات فانه حصر الحد الأدنى للشغل في البيوت في 16 سنة، والأمر الذي يتعارض مع الاتفاقيات الدولية التي تحصره في 18 سنة.
ب- ثاني عناصر الإشكالية وأكثرها تعقيدا من القوانين والتشريعات، هي ما يتعلق بتصورات ومواقف الأفراد بشأن قيمة المساواة سواء داخل الفضاء الخاص أو العام ، إذ لاتزال العقليات تقاوم المساواة الجنسية سواء بشكل واع صريح وممنهج من طرف قوى ومنظمات ومؤسسات بعينها، تجعل من الأبوية المحافظة ونزعة الوصاية إيديولوجيتها ودعامة مشروعها السياسي، أو بشكل غير واع من طرف تصورات واعتقادات وقناعات فردية وجماعية وأحكام نمطية تكرس التمييز تجاه النساء.
وتتعزز هذه المواقف من خلال التربية التمييزية التي يتم تلقينها للأطفال منذ حداثة عمرهم والتي تعمل على تكريس هذه الأحكام النمطية تجاه المرأة، وتبريرها من خلال تفسير تمييزي تفاضلي لاختلاف السمات البيولوجية والنفسية والعقلية لكلاهما، وتأويلها في اتجاه يمنح كل ما هو ايجابي للرجل، ويلصق كل ما هو سلبي بالمرأة، فالتفوق والسمو للرجل والدونية للمرأة. وبالنتيجة تتحول أولوية الذكر إلى حقيقة ثابتة، ولا تغدو بناء تاريخيا متغيرا وسوسيوثقافيا. ويترتب على ذلك تبعيتها له، فينعكس ذلك على التقسيم الاجتماعي للعمل الذي يرهن أدوارها في الزواج والإنجاب ورعاية الأطفال، ويحرمها من ولوج المجال العام، وبالنهاية يؤدي إلى حرمانها من الاستفادة من الفرص التي يتيحها العيش المشترك في المجتمع العصري كالفرص الاقتصادية والتنموية والسياسية.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 5119 - الأحد 11 سبتمبر 2016م الموافق 09 ذي الحجة 1437هـ
قد لا تكون القيمة مساووية عند ما بكون الوزن التقوى وليس الفساد والإفساد. فهن يقال ان الفساد ظهر في الأرض كما في البحر بما كسبن أيدي الناس. أي ان النساء والرجال على حد سواء في الفساد. فهل الفساد مذكرا ولا مؤنثا ...