تبدأ مدربة اليوغا التمرين، في كل جلسة، بسؤال كل واحد من الموجودين ليذكر نعمة واحدة من النعم التي يتمتع بها ويشعر بالشكر والامتنان لوجودها. فيكون البعض جاهزاً بإجابته بينما يبحث البعض عمّا يجعله ممتناً، سعيداً لتحققه أو الحصول عليه أو إنجازه. وفي الغالب يواجه البعض صعوبةً ويرون أن يومهم مرّ اعتيادياَ وليس فيه ما يرقى ليحقق له سعادة إضافية.
هذا الامتنان هو ذاته ما جاء في رد البروفيسورة الأكاديمية ميرا التي سألها زملاؤها عن سر ابتسامتها الدائمة على مدى أكثر من عقدين من الزمان، ولم تفارقها حتى يوم التقاعد الذي كانوا مجتمعين في مناسبته. فقد أجابت: «عندما استيقظ كل صباح، أمضي دقائق، قبل أن أخطط ليومي، في التأمل في النِّعم التي أحظى بوجودها في حياتي، فأشعر بامتنان كبير للنعم الكثيرة التي أعجز عن عدِّها، وينعكس ذلك على مزاجي كله طوال اليوم فأشعر بسعادة كبيرة».
ولم تكن الأشياء التي تتحدث عنها البروفيسورة ميرا ثروةً أو ممتلكاتٍ غير اعتيادية، فهي تتحدّث عن نعمة استيقاظها كل صباح، ومتعة احتسائها الشاي أمام النافذة، ووجود طلاب تربطها بهم علاقة ود وينتظرونها كما تترقب هي لقاءهم، ووجبة ساخنة تعد نفسها بها في المساء. وتقول: «أشعر بالامتنان وبأنني محظوظة بما لديّ، ولا أقارنه أبداً بما عند الآخرين، ولا أفكر مطلقاً بما ليس لديّ ولا يمكنني الحصول عليه».
وبعكس ميرا، فإن أحمد شاب وسيم ومتعلم ويعمل في وظيفة حديثة في السوق، لكنه يُشاهَد كل صباح متجهماً. وإذا ما سُئل عن سبب ذلك وُجد ناقماً على «حظه التعيس» الذي جعل منه «موظفاً عادياً» ولا يعرف إن كان في وظيفته أفق لـ»منصبٍ عالٍ» يوماً ما، يتذمّر لأنه يشق طريقه وسط الازدحام في سيارة «صغيرة» ليصل إلى العمل، وليس لديه رصيد في البنك يكفيه ليسافر كما يشاء، ولم يوفّق إلى أصدقاء «مريحين» يقضي معهم أوقاتاً «سعيدة».
ينصح مدرب تقنيات التفكير الإيجابي بخطوة أولى لبدء نهار مثمر وسعيد، وهي ما أسماها بـ»إحصاء النعم»، ويعني بها تأمل الجوانب الإيجابية في حياة كلٍّ منا، والشعور بالامتنان لما نملك من حواس وأشخاص وأشياء كثيرة أخرى نعتقد أنها متوفّرة في كل الأحوال، ببساطةٍ، لأننا لم نجرب فقدانها قط، فذلك من شأنه أن يجعلنا ننطلق بإيجابية، ولأن الإيجابية أمر «مُعْدٍ»، فإننا سننشره في طريقنا بابتسامة الرضا التي ترتسم على وجوهنا.
ما جعلني أتذكر كل ذلك، هو أنني استيقظت قبل أيام على إحساس بالألم في مفصل إبهام يدي اليمنى، ولم يكن هناك سببٌ ظاهرٌ لهذا الألم. فلم أعر الموضوع اهتماماً، واعتدلت لأنهض من الفراش لكن منعني الألم من أن أنهض كما اعتدت، فاستدرت لأستند على يدي الأخرى. نظرت مرةً أخرى لإبهامي ولم أجد فيه أي إصابة لكنه لا يزال يؤلمني كلما ضغطت على المفصل أو هممت باستخدام يدي لاستكمل استعدادي لأبدأ يومي. وفي كل مرةٍ أنسى هذه الإصابة الغامضة التي تعرض لها إبهامي؛ كان الألم يذكرني أن استثنيه من أي «مساعدة» لأصابع يدي الأربعة الآخرين.
ولأنني «يمناوية»، فقد وجدت صعوبة بالغة في أداء أغلب الأشياء الروتينية التي أقوم بها بشكل آلي يومياً. فلم أتمكن من فتح قنينة المياه، ولم أستطع أن استخدم فرشاة الأسنان كما اعتدت، ووجدت صعوبةً في ارتداء ملابسي، وفي تسريح شعري، ولم أستطع أن أكتب على شاشة هاتفي، أو أضغط زر إقفاله.
وبعد أن اضطررت إلى قضاء وقت أطول في تحضير إفطاري السريع؛ تركت سحّاب محفظتي مفتوحاً بعد أن فتحتها لأعطي ابنتي مصروف المدرسة، لأنني لم أستطع إغلاقه، وبصعوبة بالغة أقفلت حزام السلامة، وكان عليّ بذل اهتمام أكبر لاستخدام أزرار التحكم في السيارة، وفي قفلها. وللمرة الأولى أأسف لأنني لم أجرّب الاعتماد على يدي اليسرى بناءً على نصيحة أحد خبراء السلوك الإنساني، كنوع من تنشيط جهة الدماغ المسئولة عن الجزء الأيمن الذي يُعتبر ثانوياً لمن يكون اعتمادهم الأساسي على اليد اليمنى.
مع وصولي إلى المكتب، كنت على استعدادٍ لأن أؤكّد أن إبهامي الأيمن هو أهم عضو في جسمي، وكدت أغبط كلّ من كنت أراه يستخدم يده بعفوية من يمتلك إبهاماً سليماً لا يعيقه عن أي عمل. وكان البحث في إصابة إبهامي قد تصدّر اهتمامي لكثرة عدد المرات التي ذكرني الألم أن هذا الإبهام كان «خارج الخدمة» ذلك اليوم.
في المواقع التي رصدها محرك البحث سُردت تفاصيل وخصائص بيولوجية كثيرة تدل على أهمية الإبهام لدى الإنسان التي تجعله متفرداً عن سائر المخلوقات، والتي تجعله فعلاً عضواً مهمّاً لولاه لكانت الأصابع الأربعة الأخرى محدودة الفائدة، ولتأخرت الكثير من الإنجازات البشرية التي كان لخصائص الإبهام دور كبير في تنفيذها.
في اليوم التالي، كان إبهامي، وببعض العلاجات، قد بدأ يستعيد عافيته ويخف الألم تدريجياً، وليس لديّ شك في أن إصابته وسلامته ستكونان من أهم النعم التي سأذكرها في جلسة اليوغا المقبلة، وأعتبر نفسي محظوظة بهما.
سلامته لأن الألم قد زال واستعدت بزواله توازني، وإصابته لأنها أهم بكثير من زوال الألم المؤقت. فإصابة إبهامي نبّهتني إلى هذا الإبهام قد يكون أشياء كثيرة صغيرة ولكنها أساسية، وربما أشخاص نعتقد أنهم، ولفرط تواجدهم، وأدائهم لدورهم في حياتنا برتابة وهدوء وإخلاص، نعتادهم لدرجة ألا نراهم ولا نشعر بأهمية أدوارهم التي يؤدّونها في حياتنا، حتى يبتعدوا عنا، أو نفقدهم، أو نكاد.
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 5114 - الثلثاء 06 سبتمبر 2016م الموافق 04 ذي الحجة 1437هـ
كعادتك .. مقال مميز و مشرق و يدعو للتأمل .. كما يدعو للتفكّر في النعم المجهولة التي لا نشعر بها الا بعد فقدها..
شكراً لك .. وسلامتك ..
الف تحية.
احلا نعمة استيقاظ من الصباح الباكر نعم هو فن الحياة
الإبهام الأيمن يمثل عَصّب الحياة الالكترونية في هذا الزمن ، من منا لا يستخدم الهاتف الذكي وأكثر الاستخدام يكون بهذه الاصبع الجميلة وكأنها قد استحوذت على حصة كل الاصبع الاخرى ... حفظ الله إبهامك استاذة من كل شر ودمت في صحة وسلامة